4 معارك ثقافية حدثت خلال العام الذى يمضى إلى حاله اليوم، معركة عاصفة بسبب نية فاروق حسنى فى تولى إدارة اليونسكو، ومعركة مجانية بدأها جابر عصفور هجوما على علاء الأسوانى، ومعركة ثالثة مكررة تخص المطالبة بمصادرة «ألف ليلة وليلة»، وأخيرا معركة رابعة ألمت بالمصريين، وكانت معركة محزنة، بسبب سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» من متحف محمود خليل وعلى إثرها دار هجوم شديد بين فاروق حسنى ومحسن شعلان. شهد عام 2010، كبقية الأعوام، معارك ثقافية، بعضها جديرة بالالتفات كمعركة فاروق حسنى مع اليونسكو، وأخرى مجانية تكررت فى أعوام سابقة. وهى «خناقات» نشبت بين فرد أو فردين، ثم تطوع آخرون، الذين يقومون بدور «السنيد»، فأصبحت الخناقات «عركة» جماعية، آتية فى الغالب للتسلية أو للإحساس بالأهمية، كأن لسان حالها يقول: «لا مانع من بعض الجدل واللغط حتى لو كان وهميا ومجانيا، فنحن موجودون.. والساحة الثقافية بخير وبصحة جيدة»، لذلك لم تظهر معركة نقدية أو ثقافية بجد كالتى كانت تحدث فى زمن الهمة والثقل الفكرى، كالتى وقعت بين عباس العقاد وخصومه أو بين طه حسين ومهاجمهيه. حتى القضايا التى أثارتها الحركة الأدبية فى القرن الماضى، لا نجد اليوم ما يشابهها، ففى مراحل سابقة، كان المثقفون ينقسمون حول قضايا حرية الإبداع والتأويل، والجدة أو الحداثة، والعلاقة بالتراث. وكان الأهم فى ذلك كله، أننا كنا نقرأ أن الناس كانوا منشغلين بهذه المعركة، يفكرون فيها، والكل يدخل فى حوار حضارى راقٍ أوجد نهضة ثقافية حقيقية. خلال هذه الفترة كنت تحس بإيمان حقيقى لدى القراء أن الثقافة فعل حضارى لا فعل وجود شخصى. أما اليوم فلا ينقسم المثقفون ولا يتعاركون إلا لأسباب فى أغلبها تخص تبادل المنافع والمجاملات. ويبقى أنه لا توجد معارك فاعلة يقودها تيار فكرى ضد تيار آخر. الأديب إبراهيم أصلان قليل الكلام، لكن حين يتكلم يكون كثير الحكمة قال «لو أردت أن تعرف حال هذا الجيل، قارن بين جيل عبدالحليم حافظ وجيل نجم الجيلين تامر حسنى». لم يقصد أصلان الحال الثقافى فقط، كأنه يقول إن الثقافة وتجلياتها ابنة البيئة، فهى تعيش وتنمو وتتنفس وتتغذى من المائدة نفسها التى تعيش عليها السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. فى السطور الآتية نتذكر أهم المعارك الثقافية التى وقعت عام 2010، بالطبع هناك معارك أخرى غير المذكورة هنا، لكنها أقل حدة فى الجدل والسخونة، أو تخص مجموعات صغيرة من المثقفين. المعركة الأولى.. عاصفة لعل خسارة فاروق حسنى فى تولى إدارة اليونسكو من أبرز المعارك، فهى جديدة وحقيقية، ومختلفة عن بقية معارك عام 2010. أيام انتخابات اليونسكو لم يتوقع أى متفائل أن يحصل حسنى على أصوات عديدة، الذى كاد يصل إلى إدارة اليونسكو، إذ خرجت المواقع العالمية وقتها تقول: «فاروق حسنى يتقدم، ولكنه لم يحسم الانتخابات». لكن بعد السقوط قال حسنى، وبعض معاونيه الذين ذهبوا معه لإدارة المعركة إن سقوطه وراءه المندوب الأمريكى. الكل وقتها لم يهتم بما ردده حسنى إلى أن كشف موقع التسريبات «ويكيليكس» عن وثيقة سرية تؤكد صحة وجهة نظر فاروق حسنى. أثناء الانتخابات كان يواجه حسنى هجوما داخليا من بعض المثقفين المصريين الذين يرون أنه لا يستحق تولى منصب ثقافى رفيع كاليونسكو، فيكفى ما فعله ويفعله فى الثقافة المصرية، فضلا عن هجوم خارجى بحجة اتهامه بمعاداة للسامية، أو ما ردده فرنسيون من أنه رجل أمن لا رجل ثقافة، مشيرين إلى تعاونه مع المخابرات المصرية فى أوائل السبعينيات. انتهت انتخابات اليونسكو، وخرج حسنى خاسرا منها بشرف كما يقولون، ولكن بقت أصداء اليونسكو مترددة إلى الآن، حيث رأى البعض، مثل المفكر جلال أمين فى مقاله «أصلها عزبة»: «إن السيد حسنى. لم يتصرف فى موضوع رئاسة اليونسكو، التصرف اللائق بوزير فى دولة لها بعض المبادئ التى تلتزم بها، وتستوحى مواقفها من مشاعر شعبها، فلا تقابل أعداءها مثلما تعامل أصدقاءها، ولا تنفق أموال شعبها بلا ضابط أو شعور بالمسئولية. بالعكس من ذلك، كانت تصرفات وزير الثقافة فى هذا الموضوع، كما لو كانت الوزارة والدولة كلها عزبته الخاصة أو عزبة والده. فجاءت قصة الترشيح والانتخاب محزنة للغاية، من أولها إلى آخرها». آخر القصة هو ما زاد الجدل وأشعل اللغط، حيث أكد حسنى أنه سيستقيل من الوزارة سواء نجح أو خسر، إلا أن الرئيس مبارك استقبله قائلا: «إرمى من ورا ضهرك». المعركة الثانية.. مجانية أما المعركة الثانية التى أثارت جدلا فهى معركة «جابر عصفور وعلاء الأسوانى» الأبرز هذا العام، التى كانت حديث المثقفين. بدأت المعركة بمقال كتبه جابر عصفور فى الأهرام تحت عنوان: «افتراء كاتب مصرى بمناسبة تكريم فرنسى». يرد فيه على ما يكتبه الأسوانى ب«الشروق»، خاصة تعليقاته على جوائز الدولة، وكيف يسيطر عليها وزير الثقافة ويعطيها لمن يريد، فقال عصفور: «الحق أننى عندما قرأت هذا الكلام لم أشعر سوى بأن صاحبه يقوم بعملية تدليس واضحة». وحاول عصفور أن يسند كلامه إلى وقائع فسرد أسماء كبار حصلوا على جوائز الدولة، وختم رأيه فى هذه النقطة قائلا: «وعدد منهم دفع ثمن أفكاره غاليا، ولم يتاجر بكلمات أو شعارات مجانية، وكلهم لهم مكانتهم الإبداعية التى قد تعلو على مكانة علاء الأسوانى الذى أصبح نجما عالميا لأسباب تنطوى على نزوع استشرافى جديد، فى إطار أدلجة الشرق العربى (العجيب، الغريب، الرهيب، القمعى) التى كشفها إدوار سعيد». كما حمل المقال بعض الهجوم.. «أما علاء الأسوانى فمن حقه أن يفرح بالتكريم الفرنسى وجوائز دولية عديدة، فنحن سعداء من أجله، ونوافقه كل الموافقة عندما يقول الديمقراطية هى الحل، لكن مع ضرورة تذكر أن الديمقراطية قرينة الموضوعية وعدم الاستعلاء بالغرب الذى يحتفى بعلاء الأسوانى أكثر من احتفائه بنجيب محفوظ ويوسف إدريس وجمال الغيطانى وبهاء طاهر، وغيرهم ممن هم أكبر قامة وقيمة إبداعية وفنية، وأعمق إيمانا بأن الديمقراطية هى الحل». وقد فسر البعض هذه المعركة بسبب تأييد الأسوانى لمشروع البرادعى المعارض للنظام المصرى، والداعى إلى التغيير. أجرى بعد ذلك الزميل هشام أصلان حوارا مع الأسوانى فى «الشروق»، تعليقا على ما ساقه عصفور. وجاء الحوار بمقولات جدلية، وخرج عنوانه الرئيسى يقول: «جابر عصفور بدأ كناقد وانتهى كحامل أختام لوزير الثقافة». وصُدم الوسط الثقافى من ردود الأسوانى الواضحة والصريحة تجاه عصفور، ولعل هذه المرة الأولى التى يجد فيها عصفور من ينشر بجرأة مثل هذا الكلام الذى كان يقال فى الغرف المغلقة. الأسوانى أكد فى الحوار أن ما وجه إليه عصفور «شكل من أشكال الشتائم، وأنا لا أرد على الشتائم»، لذلك حاول الأسوانى أن يخرج من تبادل الشتائم إلى عرض وجهة نظره فيما يقدمه عصفور وكذلك فاروق حسنى والنظام كله. وقال الأسوانى: «أنا لم أشتم أى شخص، ولا أكتب مقالات حتى أشتم الناس، أنا أكتب حتى أظهر العوار والخلل الموجود فى النظام السياسى والثقافى المصرى، لأننى أحب بلادى، وأحب لها أن تكون حيث تستحق، ومقتنع بكل ما قلته، وأستطيع أن أدلل عليه»، موضحا: «أولا هذه ليست جوائز الدولة، بل هى جوائز الوزير فاروق حسنى، وأنصح جابر عصفور بالعودة للتحقيقين اللذين نشرتهما «الشروق» منذ فترة، واللذين تناولا الطريقة التى يتم بها الترشيح إلى هذه الجوائز، والأشخاص الذين لهم حق التصويت فيها. ثانيا، وهو الأهم، وجود شخصيات محترمة ضمن قائمة الفائزين بالجوائز لا تعنى أنها موضوعية». بالطبع لم يسكت عصفور عن هذا الكلام فنشر مقالات عديدة فى الحياة وغيرها فضلا عن إدلائه بحوارات صحفية لاستكمال معركته المجانية، التى لم يستفد منها الوسط الثقافى فى شىء، محاولا توضيح أن الرواج والأعلى مبيعا ليس دليلا على أن العمل الأدبى عظيم. المعركة الثالثة.. مكررة قضية «ألف ليلة وليلة»، رغم أهميتها إلا أنها مكررة، ومستهلكة. تثبت أننا لا نبنى تراكما ولا نستفيد من تجاربنا سواء فى حرية الإبداع أو حرية النشر، فقد امتلأت الساحة الثقافية كلاما عن حرية الإبداع، مع نشر تأكيدات عن قدسية التراث، بعد البلاغ الذى قدمه بعض المحامين ضد إعادة هيئة قصور الثقافة نشر كتاب «ألف ليلة وليلة» فى سلسلة الذخائر. هذا الكلام الذى تردد كان سليما وإيجابيا، ولا خلاف حوله عند المثقفين ودعاة التنوير، إلا من نقطة واحدة يدور حولها الجدل، وهى «قدسية التراث»، وثار سؤال: هل لتحقيق التراث ونشره قدسية، فلا يستطيع أن يغيره أحد، أم أن تنقيحه أمر جائز؟. وتردد سؤال آخر يرتبط بهذه المسألة: هل كان يمكن من البداية أن نعيد نشر «ألف ليلة وليلة» مع حذف القصص الجنسية «الأيروتيكية» الثقيلة أم أن الحذف يتعارض مع حرية الفكر والتنوير، ما يجعلنا نخضع لأفكار سلفية بدأت تتوغل وتلاحق المثقفين؟.. بمعنى هل كان من الممكن أن تفعل هيئة قصور الثقافة مثل دارى الهلال والشعب، وتصدر طبعة منقحة من «الليالى»، حتى تتجنب إثارة الجدل، والدفاع عما يسمى الأدب المكشوف، وهل إذا فعلت ذلك تصبح «جبانة»، ولا تقوم بدورها الثقافى؟. المحزن فى هذه القضية أن كل هذه الأسئلة وكل هذا الجدل أُثير مرات عديدة عن «ألف ليلة وليلة» بالذات، خاصة فى الثمانينيات من القرن الماضى، حيث صدر حكم قضائى وقف مع حرية النشر. لكن ما المانع أن تثير القضية مرة أخرى، حتى يحس المثقفون بالدفء من سخونة الجدل مع بعض الشعور بالوجود. يتماهى مع قضية «ألف ليلة وليلة» حالات أخرى للمصادرة، كحالة مصادرة كتاب «الزعيم يحلق شعره» للأديب الراحل إدريس على؛ لأنها تتناول جانبا من الأوضاع الاجتماعية فى ليبيا فى نهاية السبعينيات. كما علت مطالبات بمصادرة «الأيام» لطه حسين، بل إن وزير التعليم قرر حذفها من مناهج التعليم الثانوى بعد اعتراض شيوخ الأزهر على تهكم طه حسين عليهم. المعركة الرابعة.. محزنة فى حر أغسطس الخانق فوجئنا بسرقة لوحة «زهرة الخشخاش» الأصلية للفنان العالمى فان جوخ من متحف محمد محمود خليل. وتم جرجرة محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية إلى السجن ثم إلى ساحات القضاء التى أجلت قضيته إلى أوائل يناير 2011. وقضية زهرة الخشخاش، محزنة لسببين: الأول هو ضياع اللوحة نتيجة إهمال الوزير ومحسن شعلان والقائمين على المتحف، والثانى للمعركة الكلامية التى حدثت بين حسنى وشعلان التى انتهت بسلام ومحبة وخير بينهما، كما يحدث فى غرام الأفاعى. واختفى الحديث عن الفساد الضارب بوزارة الثقافة وكذلك إهمال محسن شعلان، وعاد الوئام بين الأحباب، فتوارى السؤال المهم: أين لوحة زهرة الخشخاش الآن؟، وماذا نحن فاعلون لاستردادها؟. لكن صدق السؤال: وماذا نحن كنا فاعلين حينما كانت لدينا اللوحة فى المتحف لا يطلع عليها الناس، ولم يظهر أى إنتاج للمعرفة من هذه اللوحة أو ذلك المتحف.