يثير قدر الحرية التى من الممكن أن يحصل عليها الأبناء لغطا كبيرا فى ظل مجتمع يترنح بين التقليدية والحداثة، إشكالية تطرح نفسها خلف كل باب. يستشيط أمجد من الغيظ عندما تروى له ابنته المراهقة عن مغامراتها العاطفية التى لا تنتهى، وهى تستفيض فى الحديث عن «لوك زميلها مهند الرائع» و«الاستايل الروش طحن» لمروان ذى العضلات المفتولة والذى يكبرها بأربع سنوات و«قصة الشعر المتميزة» لباهى نجم مدرستها الدولية. يحاول الأب أن يتمالك نفسه وألا يترك العنان لغضبه، فكم من مرة كان على وشك صفع ابنته التى لا تخجل من مصارحته بمثل هذه القصص فى جرأة شديدة ودون أدنى إحساس بالحرج. أمجد، المهندس أربعينى ووالد كل من أميرة وسيف، يبذل مجهودا مضنيا كى يكتسب ثقة ابنته التى تقف على أعتاب المراهقة. ورغم أنه يظن أن «الجيل الحالى أكثر وقاحة من جيله بكثير»، فإنه يشجع أميرة على البوح بأسرارها، موضحا: «الدنيا تغيرت وكذلك المعايير، المجتمع لم يعد مغلقا كما كان من قبل. فهناك شلال من الأفكار الجديدة يغزونا فى عقر دارنا، لذا نحتاج لتربية مختلفة. فهذا الجيل، قادر على انتزاع هامش أوسع من الحرية شئنا أم أبينا». يرفض الأب الشاب أن يدفن رأسه فى الرمال كالنعامة كى لا يرى التغيرات المجتمعية، ويفضل الإصغاء لابنته بعناية: « البنت التى لا تتحدث مع أسرتها تكون فرصة وقوعها فى الخطأ أكبر لأنها تعتمد فى المشورة على من فى مثل عمرها أو على جماعات مرجعية أخرى قد لا تقدم النصح السليم». تلومه زوجته على أن «الدم فى عروقه أصبح كالماء»، وتردد على مسامع ابنتها ضرورة الحفاظ على جسدها بعد كل حوار حر مع والدها. لكن أمجد لا يلتفت لغضب زوجته، ويبدى دوما رأيه لابنته دون احتقان، خاصة عندما يعرض عليها زميل لها فى الفصل مرافقتها». أجبتها بمنتهى الهدوء تستطيعين أن تسأليه عن ماذا تعنى المصاحبة وما التغير الذى يمكن أن يطرأ على علاقتكما، أعتقد لا شىء.. وبالفعل ذهبت أميرة لهذا المعجب وطرحت عليه التساؤل وتوصلا معا أن اقتران اسمها باسمه سيكون لا معنى له فى هذه المرحلة العمرية. وهكذا اقتنعت وهدأت وجاءت بعد يومين لتخبرنى عن قصة حب جديدة تعتقد أنها الأصدق ، فأجبتها أن عواطفها مازالت دائمة التغيير بدليل أنها تعجب كل أسبوع بشخص مختلف». هامش الحرية التى قد تمنحه الأسرة للأطفال وهم يخطون خطواتهم الأولى نحو الاستقلالية يثير لغطا كبيرا داخل كل بيت، فاللغط يطرح عدة تساؤلات عن شكل ومساحة ونوعية هذه الحرية خاصة فى ظل مجتمع يترنح بشدة بين التشدد الدينى والتحرر العولمى. «السيطرة على الأولاد أصبحت شبه مستحيلة فى ظل الطفرة التكنولوجية والتى يجيد هذا الجيل استخدامها بحرفية عالية»، هكذا تقول بسمة، أم المراهقة أنغام، التى تضع عينيها فى وسط رأسها، على حد تعبيرها. يبدو أن الحذر والخوف من كل شىء هو السمة السائدة فى علاقتها مع أبنائها. فهى تعمل جاهدة على فرض رقابة صارمة على الفيس بوك وتحتفظ بأرقام حساباتهم السرية عليه.. تراجع تاريخ مواقع الدردشة «التشات» التى استخدمتها ابنتها، وتحرص على أن تكون شاشة الكمبيوتر فى منتصف حجرة المعيشة حتى تتمكن من مراقبة الوضع، كما أصرت بدورها على وضعها فى مدرسة راهبات كنوع من إحكام السيطرة. تبحث فى تليفونها المحمول عن الأرقام التى اتصلت بها، تسألها عن مكالمة قامت بمحوها، تتلصص على مذكراتها وكأنها تبحث عن جسم الجريمة، وأثناء عملها تترك للجدة مهمة المخبر السرى. خلال مغامراتها البوليسية تضع أسلوبا صارما على نوعية البرامج والأفلام التى تشاهدها ابنتها، بل لا تتوانى عن غربلة بعض الأفكار المطروحة فى برنامج «هانا مونتانا» الأمريكى. «ابنتى حالمة للغاية، وهى شديدة الانبهار بهذا المجتمع الأمريكى الذى يقدمه المسلسل بشكل سحرى، سواء فيما يتعلق بعلاقة الجنسين أو حرية التنقل المتاحة للمراهقين، فالبنت تتحدث مع والدها على أنها سوف تسافر مع صديقها أراد أم أبى. أحاول أن أنمى لدى ابنتى نظرة نقدية وأن أصرف اهتمامها عن الشكل لصالح المضمون، كأن أقول لها مثلا أنظرى إلى جمال الملابس وتسريحات الشعر لكن».. ومع ذلك قد تترك بسمة قدرا من الحرية لابنتها عندما تذهب للمركز الثقافى الفرنسى حيث تختلط هناك بأصحاب من الذكور لكن تصرفاتها تبقى دائما تحت المجهر، فهذا القدر الخادع من الحرية الذى تمنحه لها أمها يكون فى حدود ضيقة حتى تعتاد البنت التصرف مع الجنس الآخر. «بدأت ابنتى تخاف أن تحكى لى ما يدور فى عالم المدرسة لأننى كنت أحيانا أثور وأغضب ولا أتمكن من تمالك نفسى لا لشىء سوى لأننى خائفة عليها. أعود وأؤنب نفسى وأحاول أن افتح معها حوارا مرة أخرى، لكن دون جدوى فثورتى دفعت الصغيرة لمراجعة نفسها والتزام الصمت حتى لا تغامر وتحرم من الأشياء التى تحبها، ألمح ذلك فى نظراتها». تعتقد الدكتورة هالة محمود خبيرة التربية أن الأسرة فى سعيها لتحديد هامش الحرية عليها أن تطرح على نفسها مجموعة من الأسئلة: ما مبادئها ومرجعيتها فيما يتعلق بالخطأ والصواب؟ وإلى أى مدى هى مستعدة لتحمل عواقب الحرية أو الانغلاق؟ وقد تساعد الإجابة عن هذه الأسئلة فى التغلب على الحيرة التى تقع فيها الأسرة لتحديد النموذج المتبع: تقليدى، علمانى، إسلامى إلخ، فعدم تحديد هذا النموذج هو ما يسبب للنشء نوعا من التخبط والبلبلة. فأثناء تربيتنا لأبنائنا نكتشف ذاتنا وأفكارنا، فعندما نكون مهزوزين ثقافيا ونتأرجح من أقصى اليمين لأقصى اليسار ينعكس ذلك على أولادنا. لا تفعل شيئا فى الخفاء يوسف وسلمى تائهان بين نموذجين من الأنساق الثقافية بسبب انفصال والديهما، وهما اليوم يعيشان مع والدتهما التى ترغب فى أن تكون مرجعيتهما دينية. لذا فرضت على سلمى ارتداء الحجاب، وترفض بشدة أن تختلط بالجنس الآخر، وهو المنهج نفسه الذى تنتجه مع يوسف. تقول هويدا، الطبيبة الأربعينية: «أحاول إقناع أولادى بأننا نشترى الآخرة. أعلم أن المغريات حولهم كثيرة لكننى أحاول قدر المستطاع». مهمة هويدا صعبة للغاية، فطليقها غير مقتنع بكل ما تفعله، ويعتقد أن التجربة وحدها هى القادرة على صقل الإنسان، أى أن يخطأ الأطفال ويتعلمون من أخطائهم. فعندما أراد ابنه يوسف مثلا أن يجرب النارجيلة لم يمانع بشرط ألا يفعل شيئا فى الخفاء، وهذا بالطبع يغضب هويدا التى تقول: «الإنسان بطبعه طماع وعندما يحصل على قدر من الحرية فهو يتطلع لتوسيع هذا الهامش لذا أفضل أن يكون الهامش ضيقا، على الأقل يفهم أبنائى أننى لا أوافق على ما يفعلوه من وراء ظهرى». يتأرجح الأطفال بين هذين العالمين، ويسعون لاستغلال هذا الخلاف بين الوالدين كمعظم أولاد الطلاق، لتوسيع رقعة الحرية، فسلمى مثلا تريد أن تخلع حجابها وتجد تأييدا من والدها ويثير قطعا غضب الأم: «لن أنتظر حتى يحدث معى كما حدث مع خالى الذى يعيش بالخارج عندما اتصلت ابنته بالبوليس لأنه يمنعها من الخروج مع صديقها»، وهو ما يلمح به ابنها الصغير يوسف خاصة بعد ظهور الخط الساخن لشكاوى الأسرة». ترى خبيرة التربية الدكتورة نرمين عبدالوهاب بكلية الآداب بجامعة بنى سويف أن المراهق هو ذاك الطفل الذى بين أيدينا والذى بدأ ينضج قلبا وقالبا، كل شىء يتغير فيه بدء من صورته وصوته... وهو يقف أمامنا بكل عناد ليبلغنا أنه لم يعد طفلا، لكن علينا أن نسأله: هل أصبحت فردا قادرا على تحمل جميع مسئولياتك؟ عندئذ سيطرق رأسه ويجيب: ليس بعد! وهنا يمكننا أن نمد له يدنا لنسير معا. تضيف الدكتورة نرمين عبدالوهاب: «لا يجب أن أضغط عليه فيتحجر مكانه، ولا أن أرخى له الحبل حتى يفلت من بين يدى»، وتختتم خبيرة التربية حديثها مذكرة بمقولة للإمام على رضى الله عنه الذى ينصح الآباء بعدم تربية أبنائهم مثلما تربوا هم أنفسهم لأنهم سيعيشون تحت سماء مختلفة.