لم تكن إكاترينا ميخيف تدرك ما بلغه نظام العدل الجنائى فى روسيا من انحطاط حتى رأت زوجها فيدور وهو يقتاد مقيدا إلى معسكر اعتقال فى القارة القطبية الشمالية. وقد قام السيد ميخيف بمجازفة لم يجرؤ كثيرون غيره على القيام بها كلفته 11 عاما من حريته، إذ أقام دعوى، فى عام 2006، ضد عدد من كبار ضباط الشرطة، يتهمهم بخطفه. تعد القضية واحدة من قضايا كثيرة تصور مقدار الرعب الذى تشيعه أجهزة الأمن فى روسيا. وبعد أن كانت الخشية مصدرها قمعهم الفعال للمعارضين الأيديولوجيين، فإن سمعة تلك الأجهزة تثير الرعب الآن أكثر مما كان عليه الحال فيما مضى، وذلك بسبب الحملات البوليسية التى تشنها. وتعمل الشرطة الفاسدة بالتعاون الوثيق مع عصابات الجريمة المنظمة، وهى تستهدف ضعاف رجال الأعمال بالتحقيقات والاعتقالات كوسيلة لابتزاز أموالهم أو الاستيلاء على ممتلكاتهم. وتظهر الأحداث التى شهدتها موسكو هذا الأسبوع بطريقة مؤثرة مدى التسييس الذى طال فرض القانون. فقد قدم ميخائيل خودوركوفسكى الملياردير السابق والعدو اللدود للكرملين، الذى حكم عليه بالسجن فى عام 2003 التماسا أخيرا قبل الحكم عليه فى محاكمة ثانية، يشجب فيه «التصرفات غير القانونية للشرطة» و«الحملات التى تشنها». وأضاف: «عندما يصطدم الناس بالنظام لا تكون لهم حقوق على الإطلاق». كما داهمت الشرطة بنكا يملكه الكسندر لبيديف، صاحب صحيفتى الإندبندنت وايفننج ستار اللتين تصدران فى لندن، والمعروف بانتقاده للحكومة. ولم تتضح أسباب الحملة على الفور. تقول السيدة ميخيفا، وهى وكيل سياحى بموسكو وأم لاثنين تكافح من أجل تلبية احتياجاتهما فى ظل غياب زوجها فى السجن: «ما الشرطة إلا عصابة كبيرة، وجماعة تتميز بوضع خاص. وقد اعتاد رجالها العمل على فرض أيديولوجية بعينها، وكل همهم الآن هو جمع الأموال ولا أحد يمكنه الوقوف فى طريقهم». رهائن ويقر الروس على ما يبدو بأنهم أصبحوا أكثر فأكثر رهائن لأجهزة تطبيق القانون، التى تضخمت سلطاتها خلال العقد الأخير فى ظل حكم فلاديمير بوتين، الرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالى، الذى كان هو نفسه عميلا للكى جى بى. ووجه استطلاع للرأى أجراه مركز ليفادا للأبحاث سؤالا يقول: «هل تشعر بأنك تتمتع بالحماية فى وجه التصرفات التعسفية من جانب الشرطة، ومفتشى الضرائب، وغير ذلك من الجهات الحكومية؟». وأجاب 43% من العينة «غير صحيح» وأجاب 29% «بالتأكيد، لا». لكن بينما أقال الرئيس ديمترى ميدفيديف 15 من جنرالات الشرطة هذا العام وأعلن عن الإصلاح الشامل للشرطة بحلول عام 2012، فإن القيود المفروضة على قدرات الكرملين، أو رغبته، لكبح جماح الأجهزة الأمنية واضحة للعيان. وقد فشلت السلطات فى التصدى لانتهاكات العدالة كتلك التى واجهها السيد ميخيف، برغم الطعون القانونية العديدة. وفى عام 2008، شهد المحامى سيرجى ماجنتسكى ضد الشرطة فى ادعاءات تتعلق بمشاركتها فى التهرب من دفع ضرائب قيمتها 230 مليون دولار، وهو رقم غير مسبوق فى روسيا، وذلك باستخدام شركات يملكها عملاؤه سبق مصادرتها. وفى أعقاب شهادته، اتهم بالتهرب من الضرائب، وسُجن بدون محاكمة لأحد عشر شهرا ومات فى سجنه قبل عام نتيجة لمضاعفات صحية. وقالت لجنة موسكو هلسنكى، وهى جماعة حقوق إنسان مؤثرة، إن الوفاة ترقى إلى حد التعذيب والقتل على يد الشرطة. ولم يحرز التحقيق الذى أمر به الرئيس مدفيديف منذ 11 شهرا فى ملابسات موت ماجنتسكى أى تقدم؛ ولم يلق القبض على أحد. بل إن أوليج سيلشنكو، ضابط اتصال وزارة الداخلية الذى وقع أوامر اعتقال ماجنتسكى دون محاكمة لمدة عام تقريبا، رُقى إلى رتبة المقدم فى يوليو الماضى. وبعض الملابسات المحيطة بالتهرب من مبلغ 230 مليون دولار من أموال الضرائب تجعل اتهامات ماجنتسكى للشرطة بالفساد مثيرة للصدمة. فالأختام والوثائق المستخدمة فى التحايل الضريبى كانت قد صودرت أثناء إحدى الحملات على مكاتب مؤسسته القانونية ومكاتب أحد عملائه فى يونيو من عام 2007، هى مجموعة هرميتاج لإدارة الأموال، وهو صندوق استثمارات يديره بيل برودر الأمريكى المولد، ومقره الحالى لندن. وكانت المستندات التى استخدمت فى التزوير فى ديسمبر بحوزة الشرطة وقت ارتكاب الجريمة. فوق القضاء وقالت نقابة محامى موسكو فى يوليو إن وفاة ماجنتسكى تمثل اغتيالا منظمًا للمحامين فى روسيا، مضيفة أن «مرتكبى جريمة سرقة أموال الميزانية لم ينالوا عقابهم، بينما يخضع المحامون الذين يحاولون الإبلاغ عنهم للملاحقات بتهم جنائية». لكن يبدو أن المسئولين المتورطين فى القضية فوق سلطة النظام القضائى. كذلك اتهم السيد ميخيف أحد الضباط المتورطين فى القبض على ماجنتسكى فى 2008، المقدم ارتيوم كوزنتسوف، بخطفه واعتقاله بموجب اتهامات كاذبة فى عام 2006. وقد امتنع المقدم كوزنتسوف عن التعليق على طلبات التعليق العديدة التى قدمتها الفايننشيال تايمز. وتلفت كلتا القضيتين الانتباه إلى مجموعة من العاملين بوزارة الداخلية ممن يتمتعون على ما يبدو بسلطات اعتقال واسعة. كما انتهت كلتا القضيتين نهاية مشابهة ببقاء رجال الشرطة طلقاء وبقاء من يتهمونهم بانتهاك حرمة مكاتبهم خلف القضبان. وقد بدأت ملحمة السيد ميخيف، نائب المدير العام السابق لشركة أسمدة متوسطة الحجم، فى أغسطس من عام 2006، عندما قابل المقدم كوزنتسوف فى مقر عمله، حيث اقتاده الأخير إلى مقر الشرطة لاستجوابه. وكانت الشركة، واسمها اوكراجروخيم هولدنج، قد حصلت على قرض بمبلغ 100 مليون دولار من بنك فى تى بى، ثانى أكبر بنوك روسيا، التابع للدولة. وقد تقدم البنك ببلاغ إلى الشرطة فى يوليو، يزعم فيه أن احتيالا شاب التصرف فى القرض، برغم تأكيد السيدين ميخيف والكسندر بيسونوف، رئيسه ورئيس الشركة، استعدادهما لتقديم ما يثبت أن القرض استخدم فى تحقيق الغرض المعلن عنه وهو شراء معدات. وقد شهد السيد ميخيف أمام الشرطة فيما بعد بأن الدعوى المرفوعة ضدهما محاولة من جانب موظفى البنك لاستقطاع جزء من القرض لمصلحتهم. وقال السيد بيسونوف للمحققين إنه سبق أن تلقى تهديدا من رئيس أمن البنك يتوعده ب«الهلاك» إذا لم يدفع رشوة قدرها 10ملايين دولار على الأقل لموظفى البنك مقابل حصوله على القرض. ونفى رئيس الأمن صدور مثل هذه التهديدات عنه فى استجوابات الشرطة فى يونيو من عام 2007. واستُبقى السيد ميخيف بحجز الشرطة لمدة يومين دون أن يوجه إليه أى اتهام. لكن الجانب الغريب من القصة يأتى بعد إطلاق سراحه فقد اقتيد، حسب زعمه، من مقر الشرطة وأجبر على ركوب سيارة حيث توجه به رجلان إلى منزل ريفى وبقى محتجزا هناك أحد عشر يوما. ويقول إن النقيب أنطون جوليشيف الذى تولى التحقيق معه قدم خاطفيه، فيكتور ماركلوف وسيرجى اورلوف، بوصفهما عميلين «متعاونين من الخارج»، بالرغم من حقيقة كونهما مجرمين مسجلين. خطف وفدية ووفقا لوثيقة اطلعت عليها الفايننشيال تايمز بشأن تحقيق أجراه محققو الشئون الداخلية بعد تقديم السيد ميخيف لدعواه، أنكر النقيب جولشيف اختطاف السيد ميخيف، مؤكدا بدلا من ذلك أنه طلب «تحديد إقامته مؤقتا» حفاظا على سلامته. وأثناء أسره، زعم ميخيف أن زوجته تعرضت للتهديد بالقتل إذا لم يكشف عن مكان السيد بيسونوف، حسب أقواله فيما بعد أمام الشرطة. وقال للمحققين فى سبتمبر من عام 2006: «أعتقد أن الغرض من اختطافى كان معرفة ثروة رئيسى وأين يحتفظ بأمواله». كما شهد بأنه عندما كان فى الأسر أبلغه السيد أورلوف أنه اختطف بناء على أوامر من موظفى بنك فى تى للحصول على مبلغ 20 مليون دولار من السيد بيسونوف. وفى النهاية، أطلق سراح ميخيف من جانب قوات الأمن الخاصة بعد أن أبلغت زوجته إيكاترينا الشرطة، برغم ما تلقته من تهديدات. وقرر رفع دعاوى على رجال الشرطة، بمن فيهم النقيبان جوليشيف وكوزنتسوف، اللذان حملهما المسئولية عن تدبير اختطافه. لكن ألقى القبض عليه ثانية بعد عدة أيام واتهم بالتصرف فى قرض بقيمة 100 مليون دولار من بنك فى تى بى بطريقة مخالفة للقانون. وحسبما ذكرت السيدة ميخيفا، فإن الزوجين تعرضا لضغوط من جانب النقيب كوزنتسوف لسحب شهادتيهما ضده مع اثنين من المحققين المتهمين بالاشتراك فى اختطافه، مقابل إسقاط التهم الموجهة إلى السيد ميخيف. وتقول «إنهم يقولون لنا: واحدة بواحدة». ولم يرد النقيب كوزنتسوف ولا وزارة الداخلية على أسئلة للفايننشيال تايمز لمحاولة استجلاء دوره. وبالرغم من أن ميخيف وزوجته لم يسحبا شهادتيهما ضد مجموعة الضباط، فقد أُسقطت القضية المقامة على هؤلاء الضباط فى نوفمبر 2006، ووجه اللوم إلى اثنين من المحققين الذين أمروا بالتحقيق فى اختطاف ميخيف. يقول شرطى سابق على معرفة بالقضية، «إنهم يغرقونها. وهم يضعون العراقيل. إن أحدا لم يقل لنا شيئا بصورة مباشرة، لكن كان من الواضح أنه لو استمر الضغط لكان من اللازم أن يتأثر مستقبلنا الوظيفى». ومؤخرا، ألقى القبض على السيد أورلوف وشريك آخر هو فيكتور ماركلوف بتهمة المسئولية عن اختطاف ميخيف وقضيا ستة شهور فى السجن قبل إطلاق سراحهما. وتلقى النقيب جوليشيف لوما بسيطا «لانتهاكه القانون أثناء التحقيق»، حسبما ورد بخطاب صادر من مكتب المدعى العام فى سبتمبر 2006، برغم أن الخطاب لم يوضح الانتهاكات التى يشير إليها. ولم ينل النقيب كوزنتسوف أى عقاب. وقد حكم على ميخيف بقضاء أحد عشر عاما بمستعمرة عقابية، حيث يوجد الآن.