يدخل الكهل النوبى إلى مركز الاتصالات الصغير فى شارع زكى مطر فى إمبابة، يسلم على الشاب الجالس على اليمين أمام طاولة بيع خطوط الشحن ثم يتلفت إلى اليسار ويسلم على محمد جمعة، صاحب المركز، الجالس خلف نصف حائط مبنى بالطوب يكاد يخفيه عن نظر الداخلين إن هو أحنى رأسه قليلا وهو يعمل. يستند الكهل على الحاجز ويبتسم ابتسامة عشم ويسأل جمعة عن موبايله. يرد جمعة ويعتذر أنه آت للتو من عمله فى الشركة وأنه سيبدأ حالا ويطلب منه أن يمر فى وقت متأخر أو غدا. يستدير الكهل ويشكوه للشاب مازحا، ويدور حوار بين العتب والمزاح قبل أن يرحل الكهل وسط ضحكات متبادلة بينهما. تتسع ابتسامة جمعة فى ثقة: «هناك شكوى غير طبيعية من مواعيدى. كذا حد بيسأل، ليه الناس بتيجى هنا تانى وبتصر إنى أنا اللى أصلح أجهزتهم. علشان فيه ثقة واطمئنان والحمد لله». محمد جمعة محاسب فى شركة مقاولات، وافتتح مركز الاتصالات قبل 5 سنوات. وبعد فترة بدأ الناس يحضرون إليه أجهزة الموبايل بغرض الصيانة، كان يأخذها إلى الشيخ محمد، المشهور بإتقانه للصيانة. وعندما أصبحا أصدقاء بدأ جمعة يسأل والشيخ محمد يجيب ويطلعه على بعض مهارات الصيانة ثم قرر جمعة أن يجرب بنفسه. يحكى منتشيا: «فاكر أول مرة فتحت جهاز. قلت لنفسى لو خفت مش هاتعلم. فتحت الجهاز وحاولت، الجهاز باظ منى. قررت أتحمل تكلفته وأشترى واحد تانى للزبون. لكن الجهاز البايظ ده فككته 100 حتة واتفرجت على كل حاجة فيه وخلعتها وركبتها». يضيف وهو يرفع إصبعه: «المخاطرة بتحملك تكاليف طبعا، لكن فى نفس الوقت المكسب كله فى المخاطرة. ومش هاتعلم جديد إلا لما أحاول مع مشكلة جديدة أنا ما أعرفهاش». تدخل امرأة بعباءة سوداء: «إزيك يا محمد»، وتعطيه موبايل وتشكو له من مشكلة ما. يتناول منها الموبايل ويقلب فيه سريعا ويطلب منها الانتظار قليلا. يوصله بجهاز ضخم لشحن الطاقة ويجرب: «أنا زى الجراح. لكن مشكلتى إن الموبايل مش بيتكلم ويقول لى هو بيشتكى من إيه بالظبط. لازم يكون عندى خبرة وإحساس. أنا ساعات والله بقيت باكلم الأجهزة والناس بتستغرب». يحكى أنه فى بداية عمله فى الصيانة كان يفشل فى تركيب بعض الأجزاء فيذهب إلى الشيخ محمد الذى يضعها بسلاسة وتعمل. يرفع أصابعه الخمسة ويحركها: «فيه لمسة معينة. مش بتتشرح. لكن شوية شوية بتحس بيها». يشير بيده إلى الكمبيوتر الموضوع إلى يساره، مؤكدا أنه لا يستغنى أيضا عن القراءة والبحث على الإنترنت. يستفيد من خبرات الغير وأحيانا يشارك لو سمح وقته بكتابة كيفية تشخيص بعض العيوب وطرق فك الأجهزة الجديدة. ويقول إن هناك منتديات متخصصة يلجأ إليها محبو الصيانة والمتخصصيون فيها يتبادلون المعلومات والخبرات، أشهرها منتدى «المصرية للمحمول» ومنتدى Gem Flash. «خلاص يا محمد»، تنادى السيدة من كرسيها خلف الحاجز فيجيب محمد بود: «ثوانى يا ست الكل». يفتح جهازها وبجانبه جهاز آخر يشبهه تماما ويقارن. ثم يقول إن المحاكاة بالأصل جزء مهم من الصيانة ولكن أيضا هناك مساحة للإبداع، فى رأيه يستحق بعض العاملين فى الصيانة براءات اختراع، فهم أحيانا يحلون المشاكل ليس بإرجاع الوضع كما كان بل بابتكار حل جديد. ومن أجل أن يؤهل نفسه لذلك، يحتفظ أمامه بأجهزة كثيرة يجرب فيها إن لم يكن لديه أجهزة للصيانة: «بتاع الصيانة عمره ما يبقى فاضى. طول الوقت يقرأ ويجرب ويحاول. حتى لو فيه ضغط شغل لازم وأنا بأصلح أفتح أشوف حاجات تانية وأتعلم». يقلل من أهمية المعرفة النظرية بالالكترونيات ويقول إن الممارسة أهم شىء وينصح من يريد تعلم الصيانة أن يجرب أولا مع معلم ثم يذهب لتلقى الدورات أو القراءة. تقف السيدة وتحاول أن تستعجله: «أروح وأجى لك تانى يا محمد؟» ينهى ما يبدو أنه استكشاف للجهاز ويرد بابتسامة واسعة: «لا يا ست الكل، خلاص. الجهاز بس عاوز بطارية جديدة. إنتى جايبة بطارية صينى مش أصلى. هاتى بطارية من الأصلى بتاع الجهاز علشان تحافظى عليه. أركب لك بطارية تانية أصلى؟». توافق فيطلب من الشاب أن يحضر بطارية من طرف المحل. يهز جمعة رأسه ويقول: «زباينى كلهم حبايبى. لكن نفسى يبقى لى مكان تانى أقعد فيه مع نفسى ومع الأجهزة. وحد تانى يتعامل مع الجمهور علشان أشتغل برواقة وتركيز والناس ما تضغطش عليا»، يبتسم مضيفا: «بتاع الصيانة دايما تلاقيه منظم ومهمل فى نفس الوقت». لكنه حتى الآن يعرف أنه يعمل فى مجال الصيانة فى محل فى حى شعبى وذلك يعنى أن «الكلام نص الشغل» والإقناع والثقة والود لهما نصيب كبير من نجاحه: «الناس بتديلك جهاز مقفول ومش بتفهم إنت بتعمل ايه جوه. لازم تطمنهم زى الدكتور وتفهمهم بالراحة وعلى قدهم». لا يزال الشاب يبحث عن البطارية وسط أدراج قطع الغيار. تستحثه السيدة وتنادى على جمعة: «قل له يجيب بطارية حلوة يا محمد». يبتسم محمد جمعة ويرفع صوته مخاطبا مساعده الشاب: «أحلى بطارية عندك يا سيدى».