كانت مفاجأة للكثيرين حين أعلنت شركة الأقمار الصناعية نايل سات إغلاق 12 قناة وإنذار 20 محطة تليفزيونية دفعة واحدة، بحجة أنها لم تلتزم باحترام ثوابت الأديان السماوية. وأن بعضها يبث ما يتعارض مع تقاليد المجتمعات العربية ويثير النعرات الطائفية ويتغاضى عن مواثيق الشرف الإعلامية. ولم يسأل أحد: وأين كانت أجهزة الإعلام حتى الآن؟! وقد بدا هذا الإغلاق بالجملة، وكأن الدولة قد استيقظت فجأة على وضع لم تكن على وعى به، يحتم اتخاذ إجراءات عاجلة للغلق والإنذار لمواجهة موجة من التسيب المفاجئ تهدد العقائد، وتروج للخرافات أو تدعو للإباحية وهدم قيم المجتمع.. علما بأن الشكوى من هذه القنوات قديمة، لم تتوقف منذ وقت طويل. ليس نتيجة لما تثيره من فتن طائفية وتطاول على المعتقدات وترويج للبدع وادعاء كاذب بعلوم الدين.. ولكن أيضا لما تروجه من الشعوذة والسحر. وقد باتت نقطة جذب للأدعياء والمتاجرين بالدين. يكفى أن يطلق الواحد منهم لحيته ويسبل عينيه ويرتدى جلبابا وعمامة، لتكتمل مؤهلاته ويتقمص الدور الذى يستلب به عقول العامة والدهماء. لقد كان السؤال ومازال هو: لماذا أطلق العنان لهذه القنوات منذ سنوات دون إنذارات أو طلب الالتزام بنصوص التعاقد؟ ولماذا وضعت فى سلة واحدة مع قنوات أخرى إخبارية. واقترن ذلك بقرارات صارمة لوقف حرية حركة وحدات البث المباشرة، وإخضاعها لتنظيمات تستهدف التحكم فى دخولها وخروجها لتغطية الأحداث. وبعبارة أخرى لتغطية الانتخابات المقبلة بوجه خاص؟! لا جدال فى أن إغلاق القنوات التى تروج للفتنة والإباحية والخرافة، أمر يجب الترحيب به فى مثل هذه الأجواء المفعمة بالتوتر والإثارة، ولا ينبغى الرجوع عنه لأى سبب من الأسباب.. ولكن الاعتراض ينصب على أن وضع سلطة منح التراخيص للقنوات وإصدار قرارات الغلق والإنذار لا ينبغى أن يكون فى يد شخص الوزير وحده أو رئيس النايل سات. بل جرى العرف فى الدول التى تحرص على استقلالية البث التليفزيونى، إذا توافرت الثقافة السياسية التى تؤمن بذلك، على تشكيل هيئة عليا أو مجلس أعلى لوسائل الإعلام الالكترونية هو الذى يمنح تراخيص البث أو يوقفها أو يراقبها. والشرط الضرورى لمثل هذه المجالس أن تقوم الهيئات المنظمة للبث بمهامها مستقلة عن الضغوط السياسية والحزبية والتجارية. وهذا هو النظام الذى تأخذ به معظم الدول الأوروبية: فرنسا وإيطاليا وغيرهما، طبقا لبنود قانونية تحظر تعارض المصالح. ويكون تشكيل العضوية انعكاسا لتوزيع السلطة البرلمانية وللنسبة العددية للأحزاب. وقد تمثل فيها السلطة الدينية. وفى بريطانيا وألمانيا تضم المجالس المشرفة على تنظيم البث شخصيات عامة. وتلتزم محطات التليفزيون التجارية بعدد من الالتزامات التى تلتزم بها محطات الخدمة العامة الخاضعة للدولة. مثل حماية القُصّر من مشاهد العنف وتجنب التحريض على الكراهية العرقية أو الدينية، وتجنب إذاعة برامج إباحية إلا فى ساعات متأخرة من الليل.. فضلا عن الشروط الأخرى للترخيص. والحقيقة التى لا مراء فيها أن تنظيم البث التليفزيونى يعد ضرورة لا غنى عنها. وفى كل دول العالم قواعد وأسس لتنظيم البث الفضائى سواء لمحطات الخدمة العامة أو المحطات التجارية. ووضعت لذلك تشريعات تحدد أساليب التعامل معها ومراقبتها إذا انحرفت، بما يحافظ على استقلاليتها ويدعم مبادئ حرية التعبير ويحميها من تدخل السلطة السياسية، فليس من المعقول أن تتعرض محطات مثل دريم أو المحور أو «أون تى فى» لتدخلات، مثلها مثل المجد أو خليجية أو الفجر أو الفراعين أو ما شئت. وقد حاول وزراء الإعلام العرب قبل عامين وضع وثيقة لتنظيم البث الفضائى فى العالم العربى. وفشلت الجهود فى التوصل إلى اتفاق. وكان السبب فى ذلك هو إصرار الحكومات ممثلة فى وزراء الإعلام على بسط سلطة الدولة كاملة على البث الفضائى وإخضاع القنوات لرقابة سياسية وأمنية.. بما ينتقص من استقلاليتها ويحد من حركتها. وهو أمر يخالف الاتجاه العالمى نحو تحرير البث الفضائى فى إطار أشكال تنظيمية وقانونية، تجعل الكلمة الأخيرة لممثلى المجتمع المدنى دون إهدار للحريات الإعلامية والحقوق المدنية. وهو ما يخشى أن تكون القرارات الأخيرة للحد من حرية البث المباشر بمثابة التفاف عليها!!