الموسيقى.. ذلك التراث الصارم، بما له من نظم وأشكال مستقرة وآلات فى حد ذاتها، نظرا لقدمها أصبحت عاديات تستحق البحث والتدقيق، فهى ذو صلة قائمة بين تنوعها ومعنى الموسيقى والغناء والرقص، لتشكل عالما محكم النسيج لا يشق اكتشافه وما قد يكون اعتراه من تشوه أو إضافات، إلا أنها لون يجرى الدماء فى عروق الماضى وصيغ رنانة لحكايات آتية من بعيد، فالموسيقى هى النواة الصلبة للحقيقة التاريخية، وأهمية الأدوات الموسيقية فى نقل لغة النغمة ذات دلالة مباشرة، بحيث تصبح الآلة هى صوت الفنان دون أن يحتاج الأخير إلى التفوه بكلمة، وعندئذ يتحول الإيقاع النغمى إلى موسيقى ذات معنى، وبما أن الموسيقى أصبحت جزءا من التراث، بحيث أن بعض القصص الشفهية لا يمكن أن تروى إلا فى شكل غنائى، سواء فى شكل ساخر مطعم بالفكاهة أو تعبيرا مباشرا عن الأشخاص والثقافات التاريخية. وإذا انتقلنا إلى آلات الطرق الشعبية المصرية مثل الجلاجل والصاجات والمثلث والمنحور والناقوس أو الطبول والدفوف أو آلات النفخ الشعبية أو الوتريات مثل السمسمية والطمبورة والعود وربابة الشاعر، نجدها لعبت دورا مهما فى حياة الإنسان المصرى، فمصر تقترب كثيرا من القارة الأفريقية المتميزة بالإيقاعات المختلفة والمتنوعة، وقد عرف الإنسان الطبول والدفوف منذ آلاف السنين وصنعها من الفخار أو من ثمار القرع الجاف وشد عليها رقا من جلود الأسماك الكبيرة ليسمع لها صوت هادر فى مختلف الطقوس الحربية والاجتماعية، وصمم منها آلاف الأشكال والأحجام، أما آلات النفخ فقد عرف تحديد الطريقة المثلى لكيفية إصدار الأصوات ودرجاتها، أما الآلات الوترية فقد احتاجت لابتكارها وإبداعها إلى خبرة لذلك عرفت فى أوج ازدهار الحضارات القديمة خاصة المصرية والبابلية والآشورية والصينية والهندية لتصل إلى القيثارات والعود والقانون، ففى خلال الدولة الوسطى (2000 1600 ق.م) حدث تطور كبير بظهور آلة الكنارة وبها 5 -6 أوتار تشبهه الطنبورة النوبية الأصل أو السمسمية التى انتقلت إلى منطقة القناة من صعيد مصر بصحبة عمال حفر قناة السويس، وظلت ألحان موسيقى الدولة الوسطى متناسبة مع جلالة وقداسة المعابد والطقوس الدينية والشعائر تتسم بالخشوع وعدم الصخب، كما حظى الموسيقيون بمكانة عالية وتقدير من الملوك والشعب، كما مارس المصريون الرقص كفن راق واستخدمت آلات الطرق لتنظيم حركاته وإيقاعه، وحينما ضعفت مصر وتراخت حراسة حدودها فى وقت الأسرة 14 شجع هذا قبائل البرابرة فى فلسطين والشام إلى غزو مصر هربا من المجاعة فى بلادهم وطمعا. فى خير مصر، فعبروا مصر وكونوا الأسرتين 15، 16 فى فترة حكم الهكسوس... إلى أن قامت الأسرة 17 على أيدى حكام طيبة وطردوا الهكسوس، وتكونت الأسرة 18 لملوك أقوياء امتدت إلى الشرق وتوسعت فى المنطقة، فظهرت رسوم العازفين يرتدون ملابس مخالفة للمصريين، واستفاد كل من الآخر من فنونه المغايرة، ومن هنا حدث تطور فى صناعة آلات الموسيقية وتنوعها وتبعا لذلك امتلأت موسيقى الرقص بالحيوية وازدهرت حفلات القصور كما زاد عدد المنشدين على المئات خاصة بعد تشييد معابد مثل الكرنك والأقصر وأبى سمبل حيث ازدانت بالأبهاء الفسيحة والأعمدة العديدة مما أوجب استخدام موسيقى قوية، كذلك تطور السلم الموسيقى وظهر السلم السباعى جنبا إلى جنب الخماسى القديم (تسود الموسيقى المصرية الحديثة والعربية الآن). وظهر الشكل الأول للعود ذى الرقبة القصيرة (الطنبور) وتنبر اوتارة بريشة خشبية «مقابر طيبة» ثم تطور إلى البزق وكان العازف يحملها فى صدره أو يضعها رأسية مثل الربابة، كما ظهرت الكنارة «كنر» عرفها العرب بالقيثارة وقد انتقلت إلى شعوب أفريقيا وآسيا فيما بعد ونقلها الإغريق إلى بلادهم وبعدها إلى الرومان وكل أوروبا ولازالت هذه الآلة باقية فى التراث النوبى، ثم عرف المصريون «الهارب» ذا ال13 وترا تنتهى أسفلة خيوط حرير مدلى بشكل الشراشيب. وكلما زاد تطور الموسيقى المصرية زاد اعتقاد المصريين بأنها ترتبط بالفلك وان دراستها موقوفة على الكهنة فقط. وقد ربط المصريون ألحان الموسيقى بالأجرام السماوية فى انتظام حركتها وانضباطها فبعد أن كان السلم الموسيقى بخمسة كواكب عطارد الزهرة المريخ المشترى زحل أضيفت له الشمس القمر فأصبح سبعة، كما رمزوا لكل نغمة برمز هيروغليفى مشابه لمثيله من الكواكب كذلك ربطوا بين أيام الأسبوع السبعة، وكل ساعة من ساعات اليوم توافقها نغمة، وبذلك تفوق المصرى القديم فى لغة وعلم الموسيقى. كما عرف المصرى القديم الأغانى الشعبية واستخدم فيها الناى وأبدع فى تقديم المسرحيات التى استوحت نصوصها من الأساطير، واستخدم المصريون القدماء الموسيقى للعلاج بما تؤدى له من انفعالات حسية فكان هناك معبد صغير ملحق بمعبد الإلة رع فى مدينة منف كان مخصصا لعلاج المرضى الذين يعانون من الأمراض النفسية والعصبية بالموسيقى بالإضافة إلى شرب الأعشاب المهدئة، وقد نقل اليهود أناشيد اخناتون الدينية فظهرت فى مزامير النبى داود لتخفيف آلام المرض عند تلاوتها، وتغلغلت الموسيقى فى شتى مرافق الحياة، ولذلك انتقلت فنون الموسيقى المصرية إلى كل من كانت لهم بها علاقات تجارية. الى أن دخل العرب المسلمون أرض مصر وتم التعريب اللغوى وانتشر طابع التراث المصرى فى الموسيقى والغناء، وتوالت العصور وبدخول الفاطميين دخلت الألحان الأندلسية المغربية الممزوجة بالطابع اللاتينى الإسبانى أيقظت ميول المصريين الفطرية الموروثة من آلاف السنين. وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر قام العلماء المصاحبون لها بتوثيق الموسيقى المصرية، كما احضروا معهم كثيرا من الآلات الحديثة مثل الكمان والفيولينا. وعندما تولى محمد على باشا حكم مصر عمل على إدخال الموسيقى الأوروبية إلى مصر واستخدم المدرسون الأجانب لتعليمها، وفى عهد حفيده الخديو إسماعيل تم افتتاح الأوبرا المصرية، وانتعشت مصر بمعرفة الموسيقى الكلاسيكية، بينما ظل المصريون محافظين على تراثهم الموسيقى الذى لايزال معبرا عن واقع حياتهم.