المعرض النيجيرى المقام حاليا فى قصر الفنون بساحة الأوبرا كسر كل التوقعات. فحين تم الاعلان عن افتتاحه يوم 25 يوليو بحضور وفد نيجيرى دارت التوقعات حول الاهتمام المفاجئ بأفريقيا مع تفاقم أزمة حوض النيل، وتذكُر هذا الحليف الذى طالما ربطتنا به هموم وأخطار واحدة فى سنوات التحرر الوطنى فى الستينيات قبل أن تتبدل العلاقة ويصيبها الركود وتتحول البلدان الأفريقية إلى هذا الطفل الضال الذى ينكره الجميع. وتزامن المعرض أيضا مع الذكرى ال58 لثورة يوليو التى تعد فرصة لتجديد الحديث عن أواصر الصلة السياسية التاريخية الثقافية التى ربطت بلدان القارة السوداء بمصر. ولكن بمجرد زيارة معرض «حوار أفريقيا» تبددت كل الظنون، فهو ليس مجرد فاعلية ثقافية احتفالية يتم تنظيمها لمواكبة حدث بعينه ثم تسقط بعدها فى طى النسيان. بل عرض لنخبة متميزة من إنتاج أجيال من فنانى نيجيريا، ولقاء فنى يعكس رغبة جادة فى توطيد العلاقات عن طريق الحوار الثقافى الفنى و«التعرف على مشهد الفن المعاصر فى دولة أفريقية كبيرة لها باع مهم فى الفنون والثقافة وهوية خاصة جدا لتطابق الموروثات الثقافية والدينية بين البلدين»، كما يقول محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية. حيث أكد عبدالله موكو مدير عام المتحف الوطنى بنيجيريا، الذى تعرض بعض مقتنياته فى قصر الفنون، أن المعرض نتاج مشروع تتبناه نيجيريا، أو جولة تطلق عليها اسم «نيفاتور» لاقت ترحابا من الجانب المصرى منذ سبتمبر الماضى، وهى عبارة عن برنامج لتقديم الفن النيجيرى لغير النيجيريين، وتوفر منبر للفنانين النيجيريين للمشاركة والحوار الفنى مع نظرائهم من مختلف دول العالم. أما الجانب المصرى، فقد أكد محسن شعلان فى المؤتمر الصحفى الذى سبق الافتتاح على الحرص على المشاركة الأفريقية فى الفاعليات الدولية التى تنظمها وزارة الثقافة مثل بينالى القاهرة الدولى أو بينالى الاسكندرية قائلا: «لا أريد أن أقول إنها بداية للتعاون الثقافى مع نيجيريا لأن المشاركة الافريقية كانت دائما موجودة». وقد اختار الجانبان أن تكون تيمة المعرض (الذى يستمر فى قصر الفنون حتى 3 أغسطس ثم ينتقل إلى الاسكندرية من 9 إلى 18 أغسطس القادم) الرئيسية هى «حوار أفريقيا المتواصل». وينقسم المعرض إلى أربعة أجزاء، الجزء الخاص بمقتنيات المتحف القومى للفن بنيجيريا ويضم أعمال عشرين فنانا، مقدما مجموعة من الأعمال النحتية، التى تعبر عن الفن التقليدى النيجيرى الذى طالما اشتهر بالمنحوتات الخشبية. فقد عرف الفن الافريقى قديما جميع أنواع الحفر، واشتهر الفن النيجيرى بشكل خاص بال«روك آرت» أى النقش على الصخور، أو على أسطح الكهوف منذ 8000 عام. فيمكن لزائر المعرض أن يشاهد النحت الخشبى التقليدى الشديد التميز الذى قد لا يحمل أحيانا أسماء صانعيها لكنه يعد تحفة فنية فى مجال النحت الأفريقى. أو قد تكون فرصة له لرؤية أعمال أحد كبار الفنانين النيجيريين مثل بن أنونو (مواليد 1937) الذى برع فى التصوير الزيتى والنحت على حد سواء، أو مثل شوكا أميفونا الذى قدم نحتا خشبيا بعنوان «أكروبات» أنتج عام 1988 لكنه يلتزم فيه بالمدرسة التقليدية. وتضم مقتنيات المتحف أيضا الجزء الثانى من المعروضات الخاص بالحداثة فى الفن النيجيرى أو عقود ما بعد الحرب الأهلية أى فى السبعينيات، ثم مجموعة ثالثة تمثل فن ما بعد الاستعمار أو ما يسميه منسق المعرض الدكتور كريدز اكوميزى «بالاستعمار الجديد». وما يجذب الانتباه فى مجموعات الفن المعاصر المعروضة فى القصر، أنها جميعها حتى وإن واكبت وتأثرت بالمدارس الفنية الحديثة، إلا أنها تحتفظ بصبغة خاصة بها وبصمة تنم عن الانتماء للقارة السوداء أو لنقل تعلن عن الهوية دون الذوبان فى التقنية المستحدثة. فعلى سبيل المثال قد يلاحظ الزائر بسهولة فى لوحة يوسف جريللو، التى تصور أم تضم طفلها، أنه لجأ إلى المدرسة التكعيبية التى تتعدد فيها المناظير الهندسية على سطح اللوحة، واستعاض عن التقسيم الحاد المعروف فى التكعيبية بتقسيمات أحدثتها أشعة الشمس. فأضافت تنوعا فى إضاءة اللوحة ودفئا خاصا، كما أتاحت هذه التقسيمات لجسد الأم المحتضنة لابنها أن يعيد المتلقى النظر فى العلاقات بين توحد الأم والابنة وعلاقتهما بالطبيعة خلفهما. كما بدت «باليتة» الألوان المستخدمة مستمدة من الألوان الافريقية حيث وشاح الأم فى لون البنفسج الداكن والسماء خلفه فى زرقة داكنة ولكنهما يظلان لونين مضيئين رغم ذلك. أما جورج باباتوند، فيقدم عملا من النحت الخشبى يحمل تاريخ 1995، يستفيد به من التراث النيجيرى فى هذا المضمار لكنه يقدمه فى شكل معاصر يميل إلى العجائبية حيث يقدم عملا نحتيا لجسد نصف أنثى نصف طائر يرتكز على أفخاذ سمينة وقامة رشيقة منسابة لأعلى فى خفة حتى تصل إلى قمتها المدببة مثل منقار طائر. بمعنى أن معظم الفنانين النيجيريين المعاصرين ومنهم أيضا أنسلم نياه أو أوسوالد أورواكبا قدموا الحداثة بشخصية فنية متميزة يسهل فيها التعرف على هويتهم الثقافية. وهذه النقطة تحديدا هى التى أظهرت بوضوح نوعا من الافتعال فى عرض أعمال فنانين معاصرين مصريين. فكان من الممكن الاكتفاء بتقديم الفن الافريقى للتعرف على هذا المشهد المتطور وعدم اقحام فكرة الحوار مع فنانين معاصرين مصريين. لأن رغم القيمة الفنية التى لا خلاف عليها للعشرة فنانين المصريين الممثلين فى المعرض إلا أن أعمالهم لا تتجاوب مع الأعمال الأفريقية، إذ لا يكفى أن يكون الواحد منهم قد تأثر بالفن الأفريقى مثل محمود حامد، أو يكون قد أكد على اشتغال سطح اللوحة من مواد مختلفة مثل محمد أبوالنجا أو أيمن السمرى لمقارنته أو قياس مدى تجاوبه مع نظرائه الأفريقيين. لأن الانطباع العام لمجمل الأعمال هو الإغراق فى الحداثة الخارجة عن أى سياق، مما يعطى الشعور بأننا فى حالة تنافسية نراهن فيها على من فاز فى سباق الحداثة، ولكنها رغم تناغمها وهدوئها فى العرض النيجيرى، تبدو خارجة عن السياق فى نظيره المصرى.