كيف يقضى ضباط وخبراء المخابرات الوقت بعد إحالتهم إلى التقاعد؟ سؤال شغلنى لمدة طويلة منذ أن بدأت أقرأ لجون لو كاريه وروبرت لادلوم. كان لمهنة الاستخبارات سحر خاص لدى أبناء جيلنا الذين تأثروا بالروايات العديدة التى نشرت خلال الحرب الباردة وخلفت فى خيالنا أبطالا وسير حياة محفوفة بالمخاطر والمغامرات. تعرفت ببعض من عملوا بهذه المهنة من خلال وظيفتى التى أتاحت لى فرصا عديدة للاختلاط بأشخاص من مختلف الجنسيات ويعملون بمختلف المهن والحرف. سمعت عن الجهد الذى بذل فى تدريب هؤلاء الضباط والتجارب القاسية التى مروا بها والمخاطر التى تعرضوا لها، وكنت شاهدا على بعض إنجازاتهم واستمعت من عدد منهم إلى تجارب حقيقية، أغلبها مثير وبعضها كان بتكلفة باهظة دفعوها من صحتهم واستقرار حياتهم العائلية. ولا أستطيع إنكار أن بعضه ترك فى نفسى آثارا طيبة لرؤى سديدة لم يبخلوا بها. وأذكر بكل التقدير مواقف مشرفة لعدد من الضباط الذين تقاطعت معهم سبلنا على صعيد العلاقات الشخصية والمهنية. كل هذا كان يدفع بالسؤال ليظهر مجددا، كيف يمكن أن يستفيد المجتمع بهذه الخبرات، وكيف يمكن لهؤلاء الضباط استثمارها بعد إحالتهم إلى التقاعد؟. يقولون فى الغرب إنهم لا يكافئون الموظف الحكومى أو الضابط والجندى على مجمل ما أنجز خلال عمله فى الوظيفة، فمكافأته حصل عليها مرتين. حصل عليها حين كان يتسلم مستحقاته المادية والمعنوية خلال عمله وحين وصل إلى نهاية مدة خدمته، أما أن يكافأ بجائزة أو بوظيفة أخرى عطاؤها أوفر وامتيازاتها أفخم لمجرد أنه حان وقت تقاعده أو بلغ من العمر عتيا فهذا ليس من مسئولية الحكومات. بلادنا ومثيلاتها فقط هى التى تبتدع فكرة جائزة لكل مناسبة وجائزة لكل فرد. نخترع أسماء للجوائز ونمنحها لأشخاص سبق أن حصلوا على حقوق إنجازاتهم كاملة. ولذلك وفى أغلب الحالات تحاط الجوائز واحتفالاتها ومناسباتها بحملات من الشكوك والاتهامات. هناك فى الغرب لا ينتظرون الجائزة، ولا يعترفون بأنهم وصلوا إلى خط النهاية. رأيت هذا وأنا أقرأ تقريرا فى صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية عن تجربة، لعلها جزء من ظاهرة، عن ضابط مخابرات كان يعمل فى جهاز الاستخبارات البريطانية وخرج إلى التقاعد، قرر أن يستثمر خبراته، فجاء بضابط آخر من وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA ليشكلا معا نواة «شركة استخبارات خاصة». وراحت الشركة تجند ضباطا آخرين متقاعدين تجتمع فيهم شروط جوهرية، أهمها بطبيعة الحال، الكفاءة العالية فى جمع المعلومات والقدرة على التحليل الاقتصادى والسياسى والاجتماعى، وخبرة تقدير المخاطر السياسية للمشروعات التجارية واكتشاف الثغرات فى التشريعات القانونية. اشترطوا أيضا حسن المظهر والقدرة على التأقلم فى أوساط اجتماعية متباينة. يقول نيك داى، وأعتقد أنه اسم مستعار، إنه فى سنوات أربع، أصبح للشركة فروع فى نيويورك ولندن وواشنطن وجنيف وموسكو، تضم أكثر من ثمانين ضابط استخبارات سابقا وخبراء عملوا فى مراكز بحث وبيوت عصف فكرى، ومجلس إدارة يشترك فى عضويته قاض سابق ومدير سابق من وكالة التحقيقات الأمريكية FBI ومستشار سابق للشئون الدولية كان يعمل مع السيدة مارجريت ثاتشر فى مقر رئاسة الحكومة فى داوننج ستريت. تقوم الشركة بجمع معلومات تفيد أصحاب ومديرى المؤسسات التجارية الكبيرة والمصارف وبيوت المال مثل تقييم مشاريع المؤسسات المنافسة ومتابعة تقدمها وتقديم المشورة المحايدة عن الحالة المعنوية للموظفين ومدى ثقتهم فى جهاز القيادة بالمؤسسة، وهو الأمر الذى يصعب على مدير أو جهاز داخل المؤسسة القيام به بحياد كامل. تقوم الشركة كذلك بوضع تقارير عن حجم الأخطار المتوقعة للاستثمار فى بلد غير مستقر أو تمكن منه الفساد أو فى بلد بالغ التخلف، وتقارير عن الأوضاع الأمنية ومدى تأثير هذه الأوضاع على تنشيط أو عرقلة عمليات الاستثمار. يقول أيضا إنه يقدم معلومات جوهرية تفيد المؤسسات التجارية فى مفاوضاتها، ويكشف عن أن المخبرين العاملين لديه يجندون خدما وسائقى سيارات وعمال نظافة من العاملين لدى الشركات المنافسة للحصول على معلومات من داخلها تفيد فى المفاوضات وخلال مراحل الإعداد لعقد صفقات. من هذه المعلومات المفيدة أسماء الأشخاص المتنفذين فى الدولة الذين يتوافر لديهم الاستعداد لمساعدة المستثمرين على تخطى عقبات قانونية أو أخلاقية، وفى أفضل الأحوال مساعدتهم على اختصار الطرق واستخدام أقصرها. يعترف ضابط المخابرات المتقاعد بأن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية كانت فرصا ذهبية لنمو شركته واتساع أعمالها، وآخرها الأزمة المالية فى أوروبا، وأزمة اليونان، وأزمة تسرب النفط فى خليج المكسيك. ويقول إنه فى الأزمات يتفاقم الفساد وتحتدم المناقشة، ولما كانت الاستخبارات، بحكم التعريف، مهنة التنبؤ بمستقبل الخصوم، فإن الحاجة، سواء حاجة الأفراد أو حاجة المؤسسات والأحزاب، إلى هذا النوع من شركات الاستخبارات الخاصة فى السنوات الأخيرة متزايدة ومرشحة للمزيد من التوسع. لا أظن أنه يوجد ما يدعو إلى الخشية من رفض قوى الأمن السيادية إقامة مشروعات خاصة من هذا النوع، فقد تغيرت حسب علمى مفاهيم الأمن فى جميع دول العالم فى عصر لم تعد جميع المعلومات فيه سرا أو حكرا بقدر ما صارت سلعة تخضع مثل غيرها من السلع لقوانين العرض والطلب. إن تشجيع المحالين إلى التقاعد من أبناء هذه المهنة على إقامة مشروعات من هذا النوع يرفع عن كاهل الدولة مسئولية تشغيلهم فى وظائف بالقطاع الخاص أو الأجهزة المحلية، أكثرها بالتأكيد غير لائق وغير مناسب لمكانة وتاريخ الجهاز ومكانة وتاريخ الضابط.