«إنها لحظة مفصلية فى التاريخ الإسرائيلى». الانقسام المجتمعى حاد، وحديث الصفقات يطرح نفسه فى السجالات العامة. ما مغزى العفو المحتمل عن رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو»؟ وما تداعياته على الصورة المتخيلة عن الدولة العبرية؟ لم تصدر أية أحكام بشأن الاتهامات الموجهة إليه: الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، حتى يصدر عفو عنها! لا يمكن منح العفو إلا لشخص مدان حسب القانون الإسرائيلى؟ طلب العفو قبل الحكم القضائى اعتراف صريح بثبوت التهم المشينة عليه. قال مراوغًا: «كنت أتمنى أن أنتظر حتى أحصل على البراءة.. لكن المحاكمة قد تستمر سنوات فيما إسرائيل تخوض حروبًا وتحديات». لم يبدِ ندمًا على ارتكابها، حسبما يقضى القانون للعفو عنه. ولا هو مستعد أن يعتزل الحياة السياسية، أو يغادر منصبه مختارًا «حتى إذا جاء الصباح دون أن تشرق الشمس»، كما قال أحد مساعديه. فى نص طلب العفو، الذى وجّهه إلى رئيس الدولة «إسحاق هيرتزوج»، لم يأتِ على ذكر أى اعتراف بالذنب والندم عليه. ادعى أن محاكمته تُضعِف الدولة وتكشف أمنها فى لحظة «أخطار استراتيجية»، كأنه هو وحده، كما يقول معارضوه، الذى يضمن أمن إسرائيل! قال بالنص: «فى الأشهر المقبلة سيشهد الشرق الأوسط أحداثًا غير عادية». كان ذلك توظيفًا مباشرًا لأنصاف الحروب التى يخوضها بالتزامن فى لبنانوسوريا والضفة الغربيةوغزة واليمن، وتؤذن بحرب إقليمية واسعة. قبل عشر سنوات بالضبط، فى (2015)، أُدخل رئيس الوزراء الأسبق «إيهود أولمرت» السجن لمدة ثمانية عشر شهرًا بتهم مماثلة.. لكنه وقت الحكم عليه كان قد غادر منصبه. إذا ما لقى «نتنياهو» المصير نفسه، فسوف يكون أول رئيس وزراء يُحاكَم ويخرج من السلطة مسجونًا. بالعفو المحتمل قد يخرج من أزمته القانونية أكثر قوة، مدعومًا من حليفه الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب». حسب استطلاعات الرأى العام فإن (60%) يوافقون على منحه العفو و(40%) يعارضون. وسط هذا الانقسام الحاد تبدو خيارات الرئيس الإسرائيلى ضيقة وحرجة، منصبه بروتوكولى، لكن القانون يخوّله سلطة العفو باشتراطات محددة. ينتمى تاريخيًا إلى حزب العمل، الذى أسس الدولة وقادها لفترات طويلة قبل أن تنزوى أدواره فى المعادلات السياسية. فى غضون أسابيع سوف يجد نفسه مضطرًا لإصدار قرار ما، كأن قنبلة يدوية أُلقيت فى حجره. فى جميع الاحتمالات سوف تنال منه انتقادات حادة. هناك اصطفاف يمينى متطرف وراء «نتنياهو».. وهناك اصطفاف على الجانب المضاد من أحزاب الوسط واليمين الأقل تطرفًا وبعض أطلال اليسار الصهيونى. أمام بيت «هيرتزوج» جرت تظاهرات ترفع شعارًا لافتًا: «لسنا جمهورية موز» فى إنكار للحقائق الماثلة. صاحب فكرة العفو «ترامب» نفسه. دعا أمام الكنيست الرئيسَ الإسرائيلى فى أكتوبر الماضى إلى العفو عن «نتنياهو» قبل التوجه مباشرة إلى شرم الشيخ للتوقيع على خطته ذات العشرين نقطة لوقف الحرب فى غزة. كانت تلك الخطة فى جوهرها إنقاذًا لإسرائيل من العزلة الدولية، التى بدأت تحكم الخناق عليها، لا طلبًا للسلام أو وقفًا جادًا لحربى الإبادة والتجويع. «نتنياهو» و«ترامب» كلاهما يحتاج الآخر. الأول يحتاج إلى غطاء سياسى واستراتيجى وعسكرى حتى يتمكن من المضى فى حروبه على كل الجبهات العربية الماثلة والمحتملة. الحروب أقرب إلى بوالص تأمين ضد حبسه أو عزله. والثانى يطلب بالمقابل وضع الدولة العبرية تحت الوصاية الاستراتيجية الكاملة. فى طلب العفو استند «نتنياهو» إلى ذريعة «ترامب»: «حاجة إسرائيل إليه فى حفظ أمنها». هذه الذريعة بالذات مصدر كل صراع وصدام محتمل فى المجتمع الإسرائيلى، إذا ما صدر العفو. طلب «نتنياهو» من «ترامب» مساعدته بممارسة ضغوط إضافية حتى لا يضطر إلى إبداء الندم والاعتراف بالذنب للإفلات من العقابين الجنائى والسياسى. و«ترامب» دعاه إلى زيارة جديدة للبيت الأبيض، قاصدًا ضبط أدائه فى الملفات المشتعلة بسورياولبنان والبدء فورًا فى المرحلة الثانية من خطة غزة. إنه حديث الصفقات: العفو مقابل التهدئة فى الشرق الأوسط وفق التصورات والخطط الأمريكية الأكثر إحكامًا وخطورة. إذا ما مضى سيناريو العفو إلى آخره فإنها – وفق المعارضة الإسرائيلية – ضربة قاصمة لهيبة الجهاز القضائى وسلطة إنفاذ القانون، التى طالما هاجمها «نتنياهو»، فضلًا عن تكريس ثقافة الإفلات من العقاب. من وجهة نظر أمريكية فإن الضربات الإسرائيلية المتكررة قد تُقوِّض فرصة التوصل إلى اتفاق أمنى مع سوريا. فى جميع السيناريوهات من الجانبين لا سلام يلوح فى الأفق سوى ما يطلقان عليه: «سلام القوة». إحدى الصفقات المحتملة أن يحصل على عفو كامل مقابل وقف كامل للإصلاح القضائى، الذى أدى عام 2023 قبل طوفان الأقصى إلى انقسام حاد فى المجتمع الإسرائيلى وموجة احتجاجات كادت تشل الحياة العامة. هذه الصفقة يصعب تمريرها دون أثمان سياسية تقوّض الائتلاف الحكومى الأكثر يمينية فى التاريخ الإسرائيلى كله. الأمر نفسه ينصرف بدرجة أكبر إلى صفقة التخلى عن إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية. هذه تعنى – بالضبط – انهيار الائتلاف الحكومى فورًا. حسب صحيفة «هاآرتس» فإن «نتنياهو» لا يطلب عفوًا، بل إعفاءً من المسئولية والإفلات من العقاب بلا أثمان يدفعها.