ربما لم تعرف السينما العربية وجهًا أكثر طيبة وطفولية وطرافة من وجه الإسكندرانى العريق توفيق صالح. ولكن ربما لم تعرف هذه السينما، فى جناحها المصرى على الأقل، سينمائيًا أكثر منه ثقافة وكسلًا وحبًا للسهر، وحرصًا منه على أن تكون السهرات دائمًا ذكورية تتأرجح بين شئون الأدب وحديث الأفلام. ويا حبذا أن تدور حول النوعين معًا! وهو لانتمائه إلى «الحرافيش» من رفاق نجيب محفوظ، كان يُعتبر المرجع الفنى فى أحاديثهم، بينما كان رفاقه السينمائيون فى جلساتهم معه يمطرونه دائمًا بأسئلة الأدب والفكر، معتبرين إيّاه المفتاح لولوجهم فى سهراتهم عوالم نجيب محفوظ. وهو، على الرغم من مشاركته فى جلسات الفئتين معًا بهمّة ونشاط، كان يُعتبر فى سنواته الأخيرة واحدًا من أكسل «السُّهيرة». وهى صفة كان لا يتوقف عن نفيها بل استنكارها، ناسيًا أن شعاره المفضل فى كل مكالمة تليفونية يجريها مع زوجته السيدة روضة، أو «غوضة» كما يلفظها هو بإسكندرانيته الأنيقة، كان فحواه: «خلاص يا غوضة أنا لقيت سهرة النهارده». أصدقاؤنا فى بلدان المغرب العربى الكبير كانوا مولعين بتوفيق صالح بصورة خاصة، ويقدّرون أفلامه المثقفة وشديدة الخصوصية إنما قليلة العدد، التى لم تصل إلى عشرة أفلام طوال مسار سينمائى طويل. وكذلك كانوا لا يتوقفون عن الحديث عن أن القضية الفلسطينية تدين له بواحد من أهم وأقوى أفلامها، وهو «المخدوعون» عن قصة قصيرة لغسان كنفانى، وهو من إنتاج سورى نال «الطاووس الذهبى» فى واحدة من أولى دورات أيام قرطاج السينمائية. تمامًا كحال اللبنانى الراحل بدوره، برهان علوية، الذى نال الطاووس نفسه فى العام التالى عن فيلمه السورى عن القضية الفلسطينية هو الآخر، «كفر قاسم». فهل كان كسل توفيق صالح حقًا فى خلفية قلة عدد أفلامه التى حققها واعتُبر كل منها تحفة فى الواقعية الاجتماعية والسينما المقتبسة عن الأدب التى ارتبطت به أيضًا؟ أما توفيق صالح فكان ينفى أنه كسول، ونفاه فى رسائل عديدة بعث بها إلىّ، عازيًا تقاعسه عن ممارسة دوره بشكل متواصل كواحد من أعمدة التجديد السينمائى فى مصر إلى «قرفه» من حال السينما، ولا سيّما بعد هزيمة حزيران، ثم بخاصة بعد الخيبة التى أسفر عنها مشروعه العراقى «الصدامى»" الذى ظل حتى آخر سنوات حياته يشعر بالخجل جرّاء تحقيقه على شكل فيلم بائس حمل عنوان «الأيام الطويلة»، وهو عمل لن نعود إليه هنا، فلقد سبق أن تحدثنا عنه فى مقالة سابقة على هذه الصفحات على أى حال . أمّا ما نريد العودة إليه هنا فسهرة رائعة جمعتنا فى المغرب عام 1995 مع عدد من رفاق الفن والسينما، لا يذكرها من بقى منهم على قيد الحياة إلا والدموع تترقرق فى عيونهم، استذكارًا لطرافتها من ناحية، وتحسرًا على الرفاق الكبار الذين شاركوا فيها يومها. ثم كذلك تأملات فى طرافة ظروفها، فهى كانت بالإجماع واحدة من أكثر السهرات السينمائية رومانطيقية وطرافة، رغم أنها حدثت فى مدينة الفوسفات المغربية، خريبكة، التى يغمرها ضباب الفوسفات ورائحته المقززة ليلًا نهارًا. وكنا نتساءل دائمًا: كيف أمكننا أن نمضى فيها بضعة أيام وليالٍ من أجمل وأطيب ما عرفناه فى تاريخنا السينمائى! كان ذلك خلال واحدة من أولى دورات مهرجان الفيلم العربى والإفريقى الذى لا يزال يُقام بانتظام حتى اليوم. وكان ذلك فى خيمة على شكل ديوان كما أذكر، فى حديقة فندق رائع أقمنا فيه معًا كمجموعة مختارة من مخرجى السينما ونقادها وحتى نجومها. وكان نجم السهرة توفيق صالح نفسه، وإلى جانبه برهان علوية، والمنتج التونسى حسن دلدول، والناقد نور الدين صايل، والدينامو السينمائى التونسى أيضًا أحمد بهاء الدين عطية. وآخرون أغلبهم من النقاد المغاربة الذين كانوا حينها يحيطون بصايل وبتوفيق صالح، وبنا جميعًا بودّ وفضول، يرصدون كل كلمة تُقال وكل طرفة تُروى. وكما قلت، كان النجم توفيق صالح الذى لا أدرى ما إذا كان فى تلك المدينة المغربية النائية قد عثر على هاتف يخبر به الصديقة زوجته أنه قد حصل على «سهرة الليلة دى»، لكن الأمر كان بديهيًا. وتبدّى لنا من البديهى أيضًا أن يفتتح توفيق الحديث بشكل يمنع فيه أيّا من الحاضرين من ذكر فيلمه «الأيام الطويلة» الذى كان يعتبره عاره الأبدى. وكعادته بدأ مخرجنا الكبير بالتفكّه على الفوسفات ومدينة الفوسفات، متسائلا عمّا جاءت السينما، «الفن الأثيرى» النقى، تفعله هنا؟! وقاده هذا - والجميع يصغون باهتمام وتفكّه - إلى الحديث عن إقامات فى الأرياف المصرية تتعلق بأفلامه. ثم راح يروى الحكاية بعد الحكاية عمّا كان يحدث من طرائف ومواقف، وكوارث أحيانًا، خلال التصوير فى هذا الريف أو ذاك. ولقد تكشفت فى تلك السهرة موهبة من مواهب توفيق صالح المتعددة، لم نكن نعرف لها وجودًا من قبل: موهبته كحكواتى من طراز رفيع. وكان يتجلّى أكثر فأكثر كلما أحسّ من «الجمهور المستمع» قبولًا وإعجابًا. لقد وصل إلى ذروة أدائه بعد ساعة ونصف من الأداء المنفرد حين راح يروى حكاية بدا لنا أنها تعزّ عليه كثيرًا، وأنها تعيش معززة مكرّمة فى وجدانه، وهى تتعلق بحقبة أمضاها هو والعاملون معه فى قرية شديدة الريفية والمحافظة والتخلف فى الريف المصرى - فى الدلتا على الأرجح - صوّر خلالها فيلمه الكبير «المتمردون». ولقد امتلأت حكاياته بألاعيب العمدة ونصبه على الفلاحين الذين تحولوا للمناسبة إلى كومبارس، ومحاولات الفريق العامل فى الفيلم مغازلة الفلاحات وغضب الأزواج، والمشاجرات التى كانت تحصل بين الفريقين، وغير ذلك من حكايات رائعة كان توفيق يرويها واقفًا وماشيًا ومنحنيًا، ونحن ننظر إليه بدهشة وفرح. ثم، ذات لحظة، ودون أن يبدو عليه أى تعب، استلقى على مقعده وراح يقهقه من جديد لنتبعه نحن ككورال إغريقى حقيقى. حينها قطعتُ أنا المشهد زاعقًا: «يا عزيزى توفيق، أشعر أن أمامنا هنا فيلمًا رائعًا يمكنك أن تكتبه وتجعلَه فيلمك التالى. إن هذا الذى ترويه يذكرنى بواحد من أجمل الأفلام التى حققتها السينما عن فصل من تاريخها الخاص، وهو عبدة الحب للروسى ميخالكوف. فهيا ولندحض معًا إشاعة كسلك التاريخى!». نظر إلىّ توفيق بذهول وربما بشىء من الغضب، بينما تعالت الأصوات بدءًا من صوت نور الدين صايل وصولًا إلى صوت أحمد بهاء الدين عطية تؤيد كلامى، وكل من المتحدثين يستعرض طرفة من طرائف الحكايات التى رواها المخرج الكبير. ثم هدأ الجميع حين أخرج المنتج التونسى حسن دلدول من جيبه دفتر شيكاته وكتب شيكًا باسم توفيق صالح قيمته 30 ألف دولار، ومدّ يده بالشيك إلى توفيق قائلًا بكل بساطة: «وهذا مبلغ على حساب الفيلم. يمكنك أن تبدأ الليلة أو غدًا صباحًا بالكتابة هنا فى هذا المكان إذا أردت…». والحقيقة أننا جميعًا حينها توزعنا بين مصدّق ومكذّب، ومتحمس ومتأمل، ننتظر ردّ توفيق صالح. أمّا هو، فإنه نظر إلينا بغضب حقيقى هذه المرة، وصرخ: «هو إنتو عاملين علىّ مؤامرة ولا إيه؟ خلاص، أنا هاطلع أنام.. روحوا ف داهية!» وسار مبتعدًا وهو يشتمنا جميعًا. ولعل أطرف تعليق ظهر فى تلك اللحظة أتى على لسان نور الدين صايل الذى أدهشه كيف أن المخرج الكبير تمكن فى ثوانٍ من صياغة جملة كاملة وطويلة ليس فيها سوى حرف راء واحد، لفظه بصورة طبيعية هذه المرة، وقال صايل: «يبدو أن حرف الراء بلفظه الصحيح يعود إلى لسان توفيق حين يكون غاضبًا حقًا…».