إن هذا العنوان الموجز لهذا المقال يلخص بشكل مكثف مسيرة القضية الفلسطينية بل يعكس طبيعة الصراع فى الشرق الأوسط منذ أن بدأت الأحلام الصهيونية والأوهام الاستعمارية باقتطاع أرض فلسطين العربية، مشروع دولة صنعتها أوروبا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث دخل المخطط الصهيونى إلى الساحة الدولية فى إطار الحرب العالمية الأولى وبدء آباء الحركة بتشييد دعائم ذلك لمشروع وتحويله إلى مسيرة طويلة كانت بحق هى طريق الآلام بالنسبة بمنطقة الشرق الأوسط والشعب الفلسطينى تحديدًا. وعندما أفاق العرب مع إرهاصات حركات التحرر الوطنى إلى حجم المأساة التى وضعتهم فيها الحركة الصهيونية كان قطارها قد عبر محطاته الأولى بدءًا من بريطانيا ووعد بلفور مرورًا بفرنسا عرابة البرنامج النووى الإسرائيلى وصولاً إلى المحطة الكبرى والأخيرة وهى الولاياتالمتحدةالأمريكية، واستفاد حكام إسرائيل الجدد من الأحداث الكبرى فى أوروبا خصوصًا تلك التى وقعت فى إطار الحرب العالمية الثانية التى أشعلها النازى ورأى فيها فرصة للثأر لهزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى التى تمخض عنها طرح جديد للمسألة اليهودية وجرى تصويرها على أنها حملة انتقام ألمانية ضد الوجود اليهودى فى أوروبا التى رأت أن من مصلحتها تصدير المشكلة برمتها نحو ما يدغدغ المشاعر الإسرائيلية بإقامة كيان صهيونى فى قلب الشرق الأوسط رغم أن العرب لم يكونوا غافلين تمامًا عما يحدث حولهم فقد اندلعت الثورات الفلسطينية ضد التمدد اليهودى فى بلادهم وأصبح الحديث عن الخطر القادم طرحًا شاملاً اكتشفه الجميع. وقد كان سقوط الخلافة الإسلامية قبل ذلك بمثابة إفساح الطريق أمام مخططات المؤتمر اليهودى فى بازل لتجد طريقها إلى الوجود فى أرض الواقع، ويهمنا هنا التركيز على بعض المحطات التى أثرت فى الصراع وحددت ملامحه التى انعكست بآثارها الكبيرة على الشعب الفلسطينى وأمته العربية. وقد كانت المحطة الأولى فى الصراع هى تلك المتعلقة بالمشروع الإسلامى الكبير الذى أفرزه ميلاد جماعة الإخوان المسلمين فى مصر قرب نهاية عشرينيات القرن العشرين، لذلك فإننا نستعرض تلك الرحلة الطويلة التى بدأت بميلاد المشروع الصهيونى الكبير والتى لا تبدو نهايتها قريبة رغم الموقف الأمريكى الجديد من جماعة الإخوان المسلمين على المستوى الدولى فى سابقة كبيرة لم تعرف لها مسيرة المشروع الإسلامى نظيرًا منذ بدايته، وها نحن نقف الآن فى مفترق الطرق بين الغرب والشرق ولا نكاد ندرك المسار المطلوب فى مستقبل الصراع الطويل فى الشرق الأوسط، ولنا هنا عدد من الملاحظات: أولاً: قد يظن الكثيرون أننا فى مرحلة ما قبل إسدال الستار على المشهد الأخير لعرض طويل امتد لأكثر من قرنٍ من الزمان فى صراع مكتوم بين المشروعين الكبيرين المشروع الصهيونى فى جانب والمشروع الإسلامى فى جانب آخر، وإن كان لابد من الاحتراز هنا أن المشروع الإسلامى فى جانبه قد اختلط بمشروع قومى عروبى قادته بعض الأنظمة العربية وزعامات قومية لم يكتب لمعظمها النجاح فى اختراق الحاجز الضخم على الجانبين، وأصبحنا حاليا خصوصًا بعد الحرب الصهيونية الدامية على غزة أمام مشهدٍ يدعو إلى مراجعة الماضى ودراسة الحاضر والتهيؤ للمستقبل، فالمشروع الصهيونى ماضٍ فى طريقه لا يتوقف عند حد معين أو محطة بذاتها، فأطماع اليهود واسعة وتحركاتهم بلا حدود ومؤامراتهم لا تنتهى، وأنا أظن -وليس كل الظن إثمًا– أن حملة ترامب على جماعة الإخوان المسلمين لم تكن فقط كخدمة لقوى الاعتدال الإسلامى فى مواجهة المشروع المتطرف الذى وضع أسسه الأولى الشيخ حسن البنا فى مصر عام 1928 بل إن الأمر يتجاوز ذلك كثيرًا إلى تضخم ذلك المشروع بدخول شوائب عنيفة تسربت إليه وجعلت منه فزاعة للدول الإسلامية وغيرها أيضًا، بل إننى كلما استمعت إلى تعبير «الدولة الإسلامية» كناية عن تنظيم داعش الإرهابى أشعر بالحزن لذلك الخلط الذى جرى بين الإسلام الحنيف وبين الحركات المتطرفة والجماعات التى تحترف الإرهاب وتراه سبيلا للخلاص مرتدية «قميص عثمان» كما نسميه كناية عن القضية الفلسطينية المأزومة دائمًا المعتدى عليها فى كل الظروف. ثانيًا: إن الطريق الطويل بأحلامه وآلامه وأوهامه قد ترك بصمات واضحة على المنطقة العربية بل والعالم الإسلامى كله أيضًا، وأصبح من المتعين علينا أن ندخل فى حوار طويل مع الذات حتى نتحسب للخطوات القادمة والمواقف المحتملة، فإسرائيل كيان سرطانى بطبيعته سعينا طويلاً إلى التعايش معه واعترف معظمنا بوجوده، ولكنه ظل على عهده معاديًا عدوانيًا ينشر خطاب الكراهية فى كل الأوقات، رغم أن الأغلب الأعم من العرب لم يقعوا فريسة الخلط بين ما هو دينى وما هو سياسى إلا أن ظاهرة «الإسلام السياسى» قد تركت بصمة كبيرة على مسار الأحداث وتوقعات المستقبل لا فى الدول العربية وحدها ومعها العالم الإسلامى ولكن على الصعيد الدولى أيضا بحيث أصبحت قضية الإخوان المسلمين –على سبيل المثال– ذات محتوى سياسى مطروح على الساحة الدولية كلها بل وحديث العالم وعواصمه الناشطة فى هذه الظروف. أى أن المواجهة أصبحت على المكشوف، ولم يعد هناك سبيل للإخفاء أو التمويه فإسرائيل وحلفاؤها يستغلون قلق العالم الإسلامى من العناصر المتطرفة لتحويله فى النهاية إلى داعم لإجراءات قد تنال من قضية الشعب الفلسطينى ذاته وتستخدمها كمبرر للمضى فى طريق طويل لا يعلم أحد نهايته. المسألة فى ظنى أن الغرب وخصوصًا الولاياتالمتحدةالأمريكية يريد أن يقلم أظافر تيار الإسلام السياسى وقد يكون على حقٍ فى ذلك لأن الشبهات تحوم حوله فى تحديد مسار المستقبل للقضية الفلسطينية ومحاولات تديين الصراع واضحة وليست خافية على الدوائر السياسية والدبلوماسية فى العالمين العربى والإسلامى، ولكن فى الوقت ذاته فإن إسرائيل التى برعت دائمًا فى استغلال الظروف واستخدام المواقف سوف تنجح فى استخدام المسار الجديد لتحقيق أهدافها العدوانية والاستيطانية بل والعنصرية تحت مسمى مقاومة الإرهاب الذى لا نشكك فى ضرورة مقاومته ونؤكد على الرغبة فى تحجيم مساره ولكننا نلفت النظر هنا إلى احتمالات استخدام ذلك الأمر لصالح السياسات بعيدة المدى للدولة العبرية. ثالثًا: لطالما استخدم الغرب جماعة الإخوان المسلمين كفزاعة فى ظروف كثيرة وأحقاب متتالية، ولم يعد فى مقدور الجميع تجاهل كل طرف وهو يسعى لاقتناص الفرص واستغلال الظروف من أجل الخلط بين عناصرها، بين الكفاح المسلح فى جانب وظاهرة التأسلم السياسى فى جانب آخر، وأنا شخصيًا مع ضرورة الفصل بين الدين والسياسة فهما خطان متوازيان لا يلتقيان فى معظم الظروف، وعلى سبيل المثال فقد عانينا فى مصر من تصرفات جماعة الإخوان المسلمين على مدى قرن كامل تقريبًا، وشهدنا حالات الصعود والهبوط المتجذرة فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى حتى وصلت أصداؤها إلى عواصم أوروبية دافعت فى مراحل معينة بلا وعى عن فلسفة الجماعة دون إدراك للمخاطر الناجمة عن مشروعها بعيد المدى الذى يتنافس فى صمت مع المشروع الصهيونى بكل إنجازاته وإخفاقاته، وقد وصلنا إلى نقطة الصدام المباشر واللعب على المكشوف، فالدعوة الأمريكية إلى تحجيم الجماعة هى أمر مطلوب ولكننا لا نريد لها أن تكون كالحق الذى يراد به باطل حين نكتشف فجأة أن ما جرى لم يكن من أجل سواد عيوننا أو حماية أوطاننا ولكنه كان جزءًا من مخطط بعيد لتصفية القوى المناهضة للمد الصهيونى ولو شكليًا. هذه ومضات فكرية وإرهاصات سياسية نحاول أن نستكشف بها المستقبل ونستطلع الطريق نحو ما هو قادم.