لو أن أحد زعماء الاتحاد السوفييتى السابق عاد من قبره وشاهد الولاياتالمتحدة وهى تغازل الصين، التى هى منافس جيوبوليتيكى، لكذب عينيه، فى البداية، ثم انتابه بعد ذلك شعور بالغضب. من الواضح أن الأمريكيين فقدوا عقلهم. إذ كيف يثقون فى هؤلاء الشيوعيين الصينيين؟ ولماذا كانت واشنطن على هذا القدر من التشدد مع الاتحاد السوفييتى أثناء الحرب الباردة بينما تتعامل الآن بود بالغ مع الصين، القوة العظمى القادمة؟ ليست الحياة عادلة، ويمكن للأمريكيين أن يردوا. فليست كل القوى العظمى سواء. إذ كان الاتحاد السوفييتى، أثناء الحرب الباردة، يشكل خطرا مهلكا على أمريكا يستوجب الاحتواء عسكريا والعزل اقتصاديا. وعلى عكس موسكو، ليس لبكين دول تدور فى فلكها ولا توجه عشرات الآلاف من الصواريخ ذات الرءوس النووية الموجهة إلى المدن الأمريكية. ويقود الحزب الشيوعى الصين اسميا، لكن الشيوعيين الصينيين أقرب إلى الرأسماليين الأمريكيين من رفاقهم الروس السابقين. لذا، يتطلب التعامل مع الصين الصاعدة أسلوبا مختلفا تماما. أسلوب قوامه التواصل، وليس الاحتواء. وكشأن بعث الزعيم السوفييتى السابق المتخيل، سيعتبر مؤرخو المستقبل سياسة أمريكا تجاه الصين إما غامضة أو محيرة. ومصدر الغموض أن الأمريكيين لا يتصرفون تصرف القوى المهيمنة التى عرفها التاريخ، كبريطانيا العظمى التى تعاملت مع التهديدات الصاعدة (مثل ألمانيا) بعدوانية وتأهبت بهمة للصراع. أما الحيرة فمصدرها أن الأمريكيين، فى تعاملهم مع الصين يبدون رقة وأناقة تتناقض مع الصورة الشعبية للعم سام المتعجرف والمدمر. فى مايو من العام الماضى، تبدت هذه الرقة الإستراتيجية بأوضح صورة عندما بدأت الولاياتالمتحدة والصين جلسات الجولة الثانية من «الحوار الإستراتيجى والاقتصادى» فى بكين. وترأست الوفد الأمريكى الضخم، الذى ضم 50 من أمناء مجلس الوزراء وغيرهم من كبار المسئولين، وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون ووزير الخزانة تيموثى جايثنر. وكان المنتدى الأمريكى الصينى، الذى بدأه أصلا وزير الخزانة السابق هانك بولسون فى إدارة بوش، يركز على المسائل الاقتصادية بالأساس. وعندما جاء الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، أعلى من شأن التفاهم الأمريكى الصينى وأطلق عليه اسما أكثر جلالا، وهو «الحوار الإستراتيجى والاقتصادى». وإلى جانب ذلك، ضم هيلارى كلينتون إلى الفريق الأمريكى ليزيده ثقلا وهيبة. يبدو أن الفكرة الإستراتيجية وراء هذا الحوار، عند بوش أولا ثم عند أوباما الآن، تتمثل فى أن الولاياتالمتحدة تحتاج، لمواجهة التحدى الذى يفرضه صعود الصين، إلى إستراتيجية تختلف جوهريا عن تلك التى اتبعت لمواجهة التهديد السوفييتى للتفوق الأمريكى أثناء الحرب الباردة. وبدلا من الحد من انتشار نفوذ الصين وإحباط ظهورها كقوة عظمى قادمة، تستخدم الولاياتالمتحدة مصالحها القومية بصورة أفضل عبر توجيه الطاقة الجبارة الناجمة عن صعود الصين إلى المسارات التى تفضلها واشنطن. ويمكن تحقيق هذا الهدف الطموح بعدة طرق. على سبيل المثال، من شأن مشاركة الصين فى شبكة من المؤسسات الدولية والمصالح التجارية أن يجعل لها «حصة» فى النظام الدولى القائم، الذى يهيمن عليه الغرب. أما الطريقة الأخرى فتتمثل فى تقديم الكثير من الاحترام للصينيين الذين ينأون بأنفسهم عن الحرب، وجعلهم يشعرون بالراحة لوضعهم كشريك للولايات المتحدة. ومع ذلك أدت هذه الإستراتيجية إلى نتائج مختلطة حتى الآن. فمن ناحية، تجنبت الولاياتالمتحدة والصين الدخول فى حرب باردة جديدة بغيضة. وتراقب الصين قواعد اللعبة التى وضعتها الولاياتالمتحدة إلى حد كبير. وهى حذرة فى استخدام قوتها ونفوذها المتزايد. كما أنها لا تتعدى على مصالح أمريكا الحيوية (فى الشرق الأوسط، على سبيل المثال، حيث تتوارى الصين هناك عن عمد). من ناحية أخرى، اكتشفت واشنطن أن تحويل الصين إلى شريك أصيل فى حل الكثير من المشكلات العالمية الكبرى أمر بالغ الصعوبة. فلم تتحمس الصين، على سبيل المثال، لترك الحرية للولايات المتحدة لفرض عقوبات ضد إيران فى مجلس الأمن. وبرغم موافقة الصين على بعض العقوبات، إلا أنها لم تفعل هذا إلا بعد أن انتزعت من الولاياتالمتحدة تنازلات خففت من حدة العقوبات. كما لم تهتم الصين بدعوة واشنطن لها بتحمل المزيد من أعباء معالجة التغير المناخى فى العالم. فالصين اليوم هى أكبر مصدر فى العالم لانبعاثات غازات الصوبة الزجاجية، وتطالبها الولاياتالمتحدة بقبول القيود المفروضة على انبعاثاتها. لكن الصين رفضت هذا الاقتراح بشكل قاطع، قائلة إن العالم الصناعى، والولاياتالمتحدة بصفة خاصة، هى التى خلقت المشكلة وأن عليها حلها. وأخيرا، وفيما يخص العملة الصينية، تتوسل الولاياتالمتحدة إلى الصين، بكل ما تحمله كلمة توسل من معنى، كى ترفع قيمتها من أجل تخفيض العجز الضخم فى ميزانها التجارى معها. لكن إجراء كهذا سيجعل الصادرات الصينية أغلى ثمنا ويضر بالمصالح الصينية. وتقاوم الصين حتى الآن ضغوط واشنطن. وعموما، لم يحقق نهج واشنطن لخنق الصين بالاحترام أى نتائج. لكن هذا لم يغير من الأمر شيئا. فالأمريكيون مستمرون فى انتهاج هذا السبيل. وليست الجولة الثانية من «الحوار الاستراتيجى والاقتصادى» إلا دليلا أخيرا على إصرار الأمريكيين على نهجهم. ويتساءل المرء عن شعور الصينيين تجاه هذا التودد. وهذا سؤال مثير للاهتمام لا يهتم كثير من الأمريكيين بطرحه. من وجهة نظر بكين، فإن أى تعبيرات عن الاحترام من جانب القوة العظمى الوحيدة فى العالم تكتسب أهمية كبيرة. ويحتفى الزعماء الصينيون كثيرا بالمعاملة الخاصة التى يحظون بها من قبل الأمريكيين المتعجرفين. والصين هى البلد الوحيد فى العالم الذى يجرى حوارات منتظمة رفيعة المستوى مع الولاياتالمتحدة. لكن الصينيين معروفون أيضا بتقتيرهم. وهم يريدون احترام أمريكا لكن بأسعار مخفضة. وهذا ما يفسر بخلهم فى الاستجابة لعرض الاحترام والاهتمام الأمريكى. وبالنظر إلى ما يبديه الساسة الأمريكيون حاليا من ثناء على الصين على طريقتها المميزة فى الحصول على الأشياء مجانا، يتوجب القلق من احتمال أن تمل واشنطن قريبا من تقديم مثل هذه التخفيضات للصين.