إن ما يقوم به مهرجان كان وما يشترك في قيامه كل الموجودين هنا أشبه بجزء من الصورة الكبيرة على الرغم من كبر الصورة البادية لنا. ويتجلّى ذلك باعتراف المهرجان بأهميّة سوقه السينمائية. هو ذاته يحتفي بالفن والثقافة والموضوع من جهة ويخصص مساحة كبيرة (بالمعنيين الواقعي والمجازي للكلمة) للسوق والتجارة راغبا في دفع الحركتين معا. وبينما نحن نجلس متابعين ثم محللين وكاتبين عن أفلام المسابقة وباقي الاختيارات الرسمية، فإن كل ما يهم الموزّع والمنتج هو إذا ما كان فيلم رعب جديد اسمه "ضباع" سيستطيع أن ينهش من لحم مشاهديه المحتملين. العلاقة بين كان وهوليوود تمر دائما بمنطقة فيها رياح باردة تليها رياح ساخنة، ثم باردة، ثم ساخنة وهكذا. في تلك الأعوام التي لا تتواجد فيها السينما الأميركية إلا على نحو محدود، مثل هذا العام، فإن سؤال الكثيرين الصارخ هو: أين هي السينما الأميركية؟ لم لا يوجد منها ما يكفي؟ في أعوام أخرى، حين يكون هذا الوجود ملحوظا فإن المسألة تنقلب إلى استنكار معلن: لماذا هناك هذا الكم من الأفلام الأميركية في المهرجان؟ هل هذا هو احتفاء هوليوودي؟ قدر كبير من هذا التجاذب عائد إلى أن الإعلام عادة ما يبحث عن شكوى كافية لإثارة قضية. أو عن قضية يعكس بها شكوى ما. وقبل سنوات قليلة حين واجه المخرج رون هوارد وفريق فيلم "شفرة دافنشي" النقاد والصحافيين في المؤتمر الصحافي بعد عرض الفيلم، أدرك كم أن الجمهور لا يتساهل مع فيلم لا يعنيه إذا ما وجده في صلب العروض السينمائية للمهرجان. على العكس، كان المؤتمر الصحافي الذي انعقد قبل يومين لفيلم "روبن هود" مثيرا للاهتمام من حيث أن الاهتمام به عكس ردّ فعل إيجابيا حياله على الرغم من أن معظم الأسئلة التي طُرحت على راسل كرو كانت شخصية أو تتعلّق بشؤون فنية عامّة وليست خاصّة. غياب المخرج ريدلي سكوت كان سببا في انحسار الحديث عن الفيلم إلى حد ملحوظ، لكن هذا تمّت استعاضته، كما يحدث دائما، بالمؤتمرات الصحافية الأخرى مع المخرجين غير الأميركيين الذين تمّ عرض أفلامهم في اليومين الأولين من المهرجان ومنهم: ماثيو أمالريك، مخرج وممثل "جولة" والصيني وانج جياوشواي مخرج "أحزان شونجكينج" والكوري إيم سانج سو مخرج "الخادمة". طبعا هناك فرق كبير في الاستقبال بين معظم الحاضرين: مع الفيلم الأميركي هناك قدر من الحكم المسبق: هوليوود تنتج أفلاما تطغى فيها النسبة التجارية (ونسبة كبيرة منها رديئة أو هزيلة وغير مهمّة) وهذا صحيح، وسينمات العالم تطلق أفلاما تطغى فيها النسبة الثقافية المحصّنة بالبحث الفكري والتعبير الفني والإبداعي (ونسبة كبيرة منها هي كذلك لا شك). لكن الاستثناءات هي كبيرة أيضا: ففي الوقت الذي لا يمكن اعتبار كل فيلم هوليوودي فيلما رديئا لمجرد أنه هوليوودي، فإن اعتبار كل فيلم مستقل أو ينتمي إلى سينما المؤلّف أو يختلف عن التجاري السائد هو فيلم جيّد بالضرورة لا يزال ضربا من التفكير المراهق. هذا التفكير المراهق أثّر على اختيارات لجان التحكيم سابقا: كلّما كان هناك فيلم أميركي جيّد قامت بتمويله هوليوود، قامت لجنة التحكيم بتوجيه دفّة جوائزها لأفلام أخرى تعتبرها جيّدة. كمثال واحد من عدّة لا يحتاج المرء إلا ليعود إلى سنوات قليلة حين عرض كلينت ايستوود فيلمه الرائع "ميستيك ريفر" في مسابقة كان، فإذا بالفيلم الفائز هو "فيل" لغاز فان سانت.. فيل فعلي تم تطييره آنذاك على أساس أن فيلم ايستوود، حتى ولو كان أفضل صنعا، إلا أنه لا يحتاج إلى دعم على عكس فيلم مستقل. هذا الكلام صحيح لو أن كان مخصص للسينما المستقلّة، أما وهو فاتح أبوابه لكل إبداع فالحكم على عناصر الجودة وحدها. تيم بيرتون يريد من لجنة التحكيم أن تعود إلى طفولتها وهذا ما يعد به المخرج تيم بيرتون هذا العام كونه رئيس لجنة التحكيم. يقول للصحافيين الذين حضروا مؤتمره الصحافي هنا كلاما جيّدا حول الالتزام ب"كيف يلمسنا الفيلم وجدانيا وعاطفيا وثقافيا" عوض توجيه الاهتمام إلى مسائل غير سينمائية آملا أن يترك أعضاء لجنته الأحكام المسبقة "عند الباب" وأن "تأتي النتائج لتحيي عنصر الدهشة المفقود". وهو عنصر ليس مفقودا إلا في مرّات قليلة، إذ إن اختيارات لجنة التحكيم المتناوبة كثيرا ما أدهشت ولو من الناحية السلبية "فهرنهايت 9/11" لمايكل مور سنة 2004 لم يكن أفضل من "مفكّرة الدرّاجة" للبرازيلي وولتر سايلس ولا كان "4 أشهر، 3 أسابيع ويومان" لكريستيان مانجيو، الذي فاز بالسعفة الذهبية سنة 2007 أفضل من "إقصاء" لأندريه زفياجينتزيف. وهل كان فيلم الصربي أمير كوستاريزا "تحت الأرض" أهم أو أفضل فعليا من "إد وود" للأميركي تيم بيرتون أو "رجل ميّت" لمواطنه جيم يارموش أو "كره" للفرنسي ماثيو كازوفيتز أو فيلم البريطاني كن لوتش "أرض وحريّة" وكلها عرضت سنة 1995؟ أعضاء لجنة التحكيم لكن هذا بعض الثمن الذي تدفعه أي أفلام تعرض في مسابقات مفتوحة وتخرج خاسرة رغم جودتها. فليس هناك من فيلم فائز حاز إعجاب الجميع بلا استثناء، وعادة ما تكون شخصية رئيس لجنة التحكيم هي الطاغية كما كان الحال في العام الماضي حين فرضت الممثلة الفرنسية إيزابيل هوبير على لجنة تحكيمها آراءها أو كما فعل قبلها شون بن حين وجّه لجنته إلى تبني الموقف السياسي عوض العنصر السينمائي. والناقد يتساءل كم سيأخذ وقت السجال حين يستعرض هذه الأفلام الثلاثة الأولى التي عرضت في المسابقة حتى الآن وهي الفيلم الفرنسي "جولة" لماثيو أمالريك، والفيلم الصيني "أحزان شونجكينج" لوانج جياوشواي والكوري "الخادمة" لسانج سو قبل أن يغضوا النظر عن كل واحد من هذه الأفلام ربما مع بعض التردد فيما يتعلّق بالفيلم الصيني.