فى أربيل، عاصمة كردستان العراق، تتزايد حركة البناء الآن بحيث يفوق عدد الأوناش فى المدينة عدد المآذن. ويجرى بناء المراكز التجارية الجديدة والفنادق والكتل السكنية بمعدل غير عادى. وفى زيارة قمت بها مؤخرا للمدينة سمعت الكثيرين، من الساسة إلى أصحاب المتاجر، الذين يعقدون مقارنات مع دبى فى أعقاب حرب الخليج يقصدون بذلك اقتصادا قائما على البترول يستعد للتنوع بدخول مجالى الاستثمار والسياحة. تعالج كردستان أحزانها إزاء المجازر التى عاناها شعبها تحت حكم صدام حسين، على نطاق واسع وبصورة تدريجية. وفى سيلوبى، على الحدود العراقية التركية، اصطففنا فى طابور لختم جوازات سفرنا جنبا إلى جنب مع شاحنات نقل محملة بسيارات جديدة متألقة من أنواع همر، وبى إم دبليو، وتويوتا. ويتكون الطريق الرئيسى المار عبر وسط مدينة السليمانية مدينة الجامعات من ثمانى حارات جديدة تم رصفها حديثا، وهنا تهيمن على الأفق هياكل ناطحات السحاب التى وصلت إلى مراحل متفاوتة من الاكتمال، على نحو ربما يزيد عما هو موجود فى أربيل. بالطبع، يمثل هذا التطور كله أمرا جيدا. فالأكراد الذين فروا من المذابح الجماعية أواخر الثمانينيات يعودون الآن من ألمانيا والولايات المتحدة ويجلبون معهم توجهات أكثر تنوعا، حيث تزهو ضاحية عنكاوا الثرية فى أربيل بالأطعمة الصينية والإيطالية والألمانية. وفى شوارع السليمانية ترتدى التلميذات والطالبات تنانير تكشف جزءا قليلا من الساق، بل ويكشف البعض منهن أكتافه. وإلى الشمال فى دهوك، وهى مدينة أخرى للجامعات، يمضى المراهقون أمسياتهم فى لعب الهوكى الهوائية وألعاب النيشان. ولا يحتفل الناس هنا بسقوط نظام صدام قالوا لى «إنه ليس أمرا مهما» ولكن مجرد فوز فريق إف سى برشلونة بهدفين مقابل لاشىء على فريق ريال مدريد يصبح سببا فى احتفالات الشارع المتعصب تقريبا التى ظل معها الجميع وأنا منهم يقظين حتى الثالثة أو الرابعة صباحا. وكما هو الحال فى دبى، يقوم مسئولو تخطيط المدن باستصلاح مساحات واسعة من الصحراء والأحراش وبناء مشروعات طموحة مثل دريم سيتى، وهى عبارة عن إقامة مجموعة جديدة من المساكن تحوطها الحدائق مع المتاجر، والمدارس ومسجد، وبرج كوريك المقرر بناؤه، وهو ناطحة سحاب كسيت زواياه بالزجاج، حتى أن الشركة المالكة له، وهى شركة هاتف محمول محلية، تصفه بأنه «طراز دبى». وتعتزم حكومة إقليم كردستان، القائمة على نموذج دبى، توسيع مجال الاقتصاد من الاعتماد تماما على البترول إلى السياحة والخدمات. وحدد وزير السياحة خطة طموحا مدتها خمس سنوات لبناء هذه الصناعة من الصفر فى واقع الأمر. وتركز هذه الخطة على بناء طرق سريعة جديدة بين المدن. ومؤخرا، أدرجت منظمة اليونسكو قلعة أربيل ضمن التراث العالمى، كما منحتها عدة ملايين دولار لتنفيذ برنامج للترميم، بل إن هناك خططا لإقامة منتجع تزلج فى بلدة حاج عمران الجبلية. وعلى الرغم من أنه من المبكر للغاية معرفة ما إذا كانت الدروس المستفادة من أزمة دبى، بشأن الإفراط فى الاقتراض، سوف تلقى آذانا صاغية هنا، إلا أنه توجد حاليا مشكلات أكثر إلحاحا. فأربيل تبعد أقل من 60 كيلومترا عن كركوك والموصل، وهما من أخطر الأماكن فى العالم. فبينما تنشغل كردستان فى هوجة بنائها وتسويقها، مازالت بقية مناطق العراق فى حالة حرب من الناحية العملية. وقد ظل هذا الجيب الشمالى سالما، فيما يرجع جزئيا إلى كبرياء الشعب الكردى، لكنه يرجع بالقدر الأكبر إلى الوجود الكثيف للشرطة والجيش فى الشوارع، وإن كان وجودا غير مقلق. وقد جعلت نقاط التفتيش على طول الطرق دخول المنطقة صعبا على العراقيين العرب من الجنوب والغرب. وإذا سمح لهم بالدخول فإنهم يمضون وقتهم هنا تحت المراقبة، ويعاملون بحذر، إن لم يكن بريبة واضحة. وتجرى المحافظة على نظافة الشوارع باستخدام العمالة البنغالية المهاجرة. وهى خالية من المتسولين الموجودين فقط عبر الحدود فى جنوب شرق تركيا لأن المشردين يتم إيواؤهم فى مبان خاصة، وغالبا ما يعاقبون بالضرب إذا ضبطوا عائدين إلى مواقع تسولهم القديمة. ليست هذه بأى حال دولة بوليسية: فالناس هنا أحرار بشكل عام، وسوف ينبرون لتأكيد هذه الحقيقة للزائرين، لكنهم سوف يشكون أيضا من الفساد الحكومى الهائل. ويدين العديد من العامة سرا حكومة إقليم كردستان، باعتبارها حكومة من «الفلاحين» أو «أبناء المناطق الجبلية»، غير المؤهلين للسلطة والفاسدين بالفطرة. ويصعب القيام بأى استثمار فى كردستان من دون مساعدة وتصريح من أحد الحزبين الرئيسيين فى الائتلاف الكردى، الاتحاد الوطنى الكردستانى أو الحزب الديمقراطى الكردستانى أو إحدى العائلتين اللتين تتزعمانهما. وربما لا يحصل مستثمرون دوليون على تصريح بالعمل إذا لم يسمحوا لأحد الحزبين أن يصبح شريكا مستترا فى مشروعهم. ويجد غير الحزبيين، خصوصا أولئك الذين ينتقدون الحكومة، صعوبة فى الحصول على فرصة عمل. وبدأت هذه السمعة تحدث تأثيرها السياسى. ففى انتخابات 2009، خسر حزب الاتحاد الوطنى الكردستانى محافظة السليمانية وكانت أكبر معاقله فى السابق لصالح حزب التغيير الإصلاحى، بقيادة أمينه العام السابق. وقد استطاعت دبى السيطرة على الفساد المؤسسى، وهو ما زاد من ثقة المستثمرين، واستمرت الثقة قوية فترة طويلة بفضل الدعم الكامل الذى قدمته أبوظبى جارة دبى الثرية، بينما ليس لدى كردستان مثل هذا الحليف الإقليمى. ولا تكاد ديون كردستان للأسواق المالية الدولية تذكر حاليا، ولكن ثقب فقاعة كردية قادمة لن يتطلب هبوطا اقتصاديا عالميا جديدا. فإذا اندلع عنف طائفى جديد فى الجنوب، سينجم عن ذلك تراجع ثقة المستهلك العالمى فورا فى العراق ككل، ومن ضمنه كردستان. وإذا خاف الناس من زيارة العراق، فسيكون على حكومة إقليم كردستان ألا تأمل فى اقتصاد قائم على السياحة. ولكن الانضمام إلى حكومة ائتلافية فى بغداد، والمحافظة على استقرار الجنوب، قد يضع السيادة المستقلة لإقليم كردستان على ثروته وموارده الطبيعية محل شك. لقد أنجز إقليم كردستان شوطا بعيدا فى فترة قصيرة للغاية، ولكن مازال أمامه شوط آخر. فليس عليه فقط أن يثبت لمجتمع الأعمال المتشكك أنه يستطيع أن يكون بيئة استثمارية آمنة ومستقرة لأجل طويل، ولكن عليه أيضا أن يظهر استعداده للتخلص من الممارسات والنوازع الفاسدة لحكومته. وقتها فقط يمكن للناس هنا أن يأملوا فى مستوى نمو يقارب مستوى دبى.