يرحل البشر ويبقى دائمًا الأثر سواء كان ماديًّا أو روحيًّا يغيب البشر، وتبقى أسماؤهم بقدر ما ارتقوا وفعلوا لدرجة أن تقترن مدن بأسمائهم أن يكون أثرهم هو الأهم والأبقى، ولكن من هم هؤلاء نعرف أسماءهم ولا نعرف سيرهم بالشكل الدقيق لا نعرف رحلة وصولهم إلى تلك المكانة، وذلك القدر هنا تكمن مهمة الأدب المعبر عن التاريخ وعن السيرة وعن الأثر الباقى إنه اختصاص الرواية التاريخية التى تؤسس لذلك، وهنا تبرع الكاتبة ريم بسيونى فى ذلك التأريخ للسيرة والأثر، وبعد أعمال تاريخية، اختارت هذه المرة أن تؤرخ لأربع سير، سيرة القطب الصوفى العارف بالله أبو العباس المرسى علامة من أبرز علامات مدينة الإسكندرية وقطب من أبرز أقطاب الصوفية، أما السيرة الثانية فهى للتصوف فى ذلك الزمن زمن أبى العباس المرسى، السيرة الثالثة هى لماريو روسى المهندس المعمارى الإيطالى الشهير الذى شيد المسجد الأشهر فى الإسكندرية كلها مسجد أبى العباس المرسى أو كما يحب أن يسميه أهل الإسكندرية فى كل يوم يحلفون به «المرسى أبو العباس»، إن كل ذلك تطرق بابه الكاتبة ريم بسيونى فى روايتها الأحدث «ماريو وأبو العباس» الصادرة عن دار نهضة مصر. تؤسس ريم بسيونى فى عملها الأحدث لسيرة روائية يمتزج التاريخ فيها بالتخييل الصوفية بالوقائع للقطب الصوفى السكندرى شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسن بن على الخزرجى الأنصارى المرسى أحد أكبر رجال الطريقة الشاذلية الصوفية، وأحد أكبر رموز الإسكندرية وصاحب أكبر جامع بها وأحد أشهر الجوامع فى كل أنحاء أرض مصر، ولكن ريم بسيونى تؤسس لتلك السيرة بطريقة مغايرة فهى تمزج التاريخ بلغتها القوية ومفرداتها الساحرة فتصنع شخصية كتابية ثرية سلسة، وتذهب لتتبعها فتبدأ بالإبحار بالقارئ إلى عالم أبى العباس المرسى تتبع بدايات حياته منذ أن ترك بلده الذى انتسبت إليه مرسية التى التصقت به إلى أبد الدهر حتى أصبحت هى اسمه نفسها بل وجعلها مذكورة إلى وقت لا يعلمه أحد. نرى كيف تغرب كيف فقد الأم الغالية والأب الغنى وكيف فقد الوطن، وبقى وحيدا فى بلاد غريبة هى تونس مع أخيه فقط يعمل بالتجارة، ونرى كيف كان تائهًا هائمًا لا يعرف أين الطريق حتى التقى بشيخه أبى الحسن الشاذلى الذى بدأ معه بداية طريق معرفة الله، ثم تأخذنا الكاتبة إلى ترحاله مع شيخه وأسرة شيخه وأخيه إلى مصر، وهنا نرى جزءا من شخصية أبى العباس عندما أصبح جنديا فى الحرب الصليبية نعرف أنه غير الآخرين، ونتعرف أيضا من خلال الحرب على زوجته لطيفة أو زينب. نعرف صراعاته الداخلية فى محاولة الوصول نرى كيف دفعه شيخه لتكليفه بأن يكلم الناس ويعلمهم، نشاهد زواجه وأولاده، نحب علاقته وحبه لزوجته، نحس بفقده وألمه بتيهه داخل رحلة نفسه. بعدها نرى تحوله بعد موت شيخه إلى سدة المشهد من المريد إلى الولى التقى المفتوح عليه، بالكلام نشهد معه سبه وشتمه وحقد الشيوخ الآخرين عليه نعرف مِحَنه سجنه عذابه، نعرف ترحاله نهيم معه تمر علينا السنين ونحن نرتحل بصحبته، نعجب به بورعه بزهده بمحاربته للنفس وقتلها، بعلاقته بالحكام بتربيته ليقوت وتزوجيه لابنته نذوب فى حديثه كل ذلك عن طريق قلم الكاتبة الذى يخط التفاصيل بكل مهارة. المسلك الثانى التى سارت فيه الكاتبة وطرقته بقلمها هو مسلك الصوفية الصوفية كمحور للحياة فلا يخفى علينا ولع الكاتبة بالصوفية فى أعمال سابقة، وهذه المرة قررت اختيار حقبة مهمة للأقطاب الصوفيين فى مصر، فمع تناول حياة أبى العباس المرسى تطرقت الرواية إلى سيرة أقطاب آخرين من الصوفية حتى ولو بقتضاب فالطبع كان لأبى الحسن الشاذلى نصيب وافر فى التطرق فهو شيخ أبى العباس وشيخ الطريقة التى ينتمى إليها، ثم نشاهد قصة أبى العباس مع يقوت العرش الذى اتخذه أبو العباس ولدا وتلميذا فكان نعمة الاثنين وأصبح فيما بعد الشيخ يقوت العرش صاحب المسجد المجاور لمسجد أبى العباس نفسه، ورأينا علاقة أبى العباس بالبوصيرى صاحب شعر البردة الأشهر فى المدح نعرف كيف وجهه أبو العباس وأسهم فى وصوله، ونرى العلاقة الأجمل بين أبى العباس وابن عطاء الله السكندرى صاحب الحكم الأشهر فى تاريخ البشرية نعرف قصه مع أبى العباس كيف تغير وكيف عثر على نفسه، وكيف يدين له الجميع بمعرفة أبى العباس من كتاباته عنه الذى لولاه ما عرف الناس الكثير عن ذلك القطب الصوفى. التناول الثالث كان لأحد أعظم المعمارين وهو الإيطالى ماريو روسى بطل الرواية الثانى مشيِّد مسجد أبى العباس الفنان الذى ركب البحر ترك الوطن ليغترب بحث عن الفن أو بحث عن النفس لم يدرِ نرى سيرته ونعرف قصته بداياته فى مصر شغفه بالعمارة سعيه للحرية عشقه للفن أمه المشجعة المتحكمة نرى سجنه هو الآخر شقاءه تيهه اغترابه علاقته الغريبة بأبى العباس صداقة أرواحهما بل صداقته بكل شخصيات الرواية. الطرق الرابع كان للأثر التى اعتادت الكاتبة على طرقه فى أعمالها المختلفة كان للذى بقى بعد كل رحيل المسجد مسجد أبو العباس المرسى أكبر مساجد الإسكندرية الذى شيده فنان ماريو بعد أن عرف أبى العباس بعد أن توقف البناء وعاد بعد تغير الملوك، لكنه شيده فى النهاية ليبقى إلى ما لا نهاية شاهد على العصر بجماله وكبره وبهائه مخلدا لاسم واحد منأتقى الرجال. فى النهاية لقد خطت ريم بسيونى عملا عذبا دخلت به إلى أغوار النفس تناولت سيرة العارف بالله هى سيرة عشق إلهى سيرة التصوف الذى يكون محورا للحياة كما فعل أبو العباس أرخت بسردها السلس الفلسفى فأضحى العمل الروائى صادقا إلى أقصى حد ممكن، بلغة المفرادات العذبة التى تطرق بقوتها أبواب النفس.