امرأة متمردة وخارجة عن المألوف بكل المقاييس. تتقن سبع لغات وتعمل سنوات لتصدر "انطولوجيا الشعر اللبناني الحديث" ثم "انطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين" ولا يوازي انتقاد أعمالها والهجوم الذي يشن عليها دون هوادة، إلا عدد الجوائز الأدبية والصحفية العالمية التي تنالها كل يوم. ورغم أن المجموعات الشعرية التي أصدرتها هذه الشاعرة المثيرة للجدل، كانت من الجرأة بمكان وأثارت موجة من الانتقاد الواسع في لبنان والعالم العربي، إلا أن إصدارها مجلة متخصصة تركز على آداب الجسد وعلومه والجنس بكل أبعاده وفنونه شكل صدمة والكثير من الدهشة. مجلة فصلية هي الأولى من نوعها في العالم العربي، تقول علنا ما لا يسمح به همسا في مجتمعاتنا... لماذا؟ وكيف تستمر لتصدر اليوم عددا سادسا يتضمن محاورا عن العذرية وإشكالية غشاء البكارة في الثقافة العربية؟ سي ان ان التقت الشاعرة حداد قبيل مشاركتها في الصالون الأدبي اللندني الذي يديره فيصل اليافعي والذي ينعقد في مقهى "باردو" ببيروت مساء الثلاثاء 13 نيسان (ابريل) الجاري في جلسة حوار معها تحت عنوان "لغة الجسد"، وقبل أيام من سفرها إلى مونتريال لاستلام "جائزة بلو ميتروبوليس" للأدب العربي التي حازتها هذه السنة. تقول حداد "يدور عالمي الشعري أصلا في فلك الجسد والجنس والعلاقة بين الرجل والمرأة وعلاقة المرأة خصوصا مع ذاتها وكيانها وهويتها، ولطالما شعرت أن الكتابة بالنسبة إليّ تجربة حسية وفيزيقية، بقدر ما هي فكرية وروحية. لكن معظمنا يعيش في العالم العربي ازدواجية في الشخصية: نفكر غير ما نقول، نقول غير ما نفعل ونفعل غير ما نفكر. نحن ندور داخل حلقة مفرغة تدفعنا الى التعامل مع أجسادنا بدونية أو خجل، فلا نعيش حياتنا الإنسانية بكل مستوياتها وأبعادها كما تستحق، ونستحق، أن تعاش". وتتابع "هذا الفصام يتسبب بمشاكل نفسية واجتماعية وعائلية وصحية تبدأ منذ الصغر بكلمة "عيب". وبما أن الجنس حاجة طبيعية وهو ممنوع في الوقت نفسه، يروح "المقموع" يبحث عن المعلومات ويستقيها من مصادر سيئة وبشكل مشوه وملتو، ما ينتج المزيد من المشكلات والعقد". وتستطرد حداد لتعطي مثالا، فتقول: "البعض مثلا يملأ أفكار الشباب بكلام مضلل وخرافي يزرع الرعب في نفوسهم، من نوع أن ممارسة العادة السرية تتسبب بالعمى! ثم يبلغ هؤلاء المراهقون مرحلة النضج ليواجهوا الواقع بتعقيداته، من مسألة العذرية، مرورا بسياسية المكيالين والتمييز بين الشاب والفتاة، وصولا إلى طريقة التعامل مع المرأة تحديدا، حيث يُعتبر جسد المرأة في مجتمعاتنا وكأنه هبة للرجل، كي لا نقول ملكه... ولكن أي رجل هو ذاك الذي يحتاج إلى وهم أنه الفاتح الأول والأخير، وكأن لا حياة لهذه المرأة قبله ولا بعده؟". وعن تضارب هذه الأفكار مع الأديان والعادات والتقاليد تجيب انه "في الأساس، أحد أبرز أسباب القمع الجنسي في العالم العربي هو العقل الديني الذي يقرر عنا سلوكياتنا ويجزم ما هو الصح وما الخطأ وما المسموح وما الممنوع، ويصنف الجنس على أنه خطيئة، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالمرأة". أسألها "الأدب والشعر في ثقافتنا العربية يقومان على جمالية التعبير، فلماذا تحملينهما بعدا إباحيا، وما الغاية وراء الاستفزاز؟". تقاطعني: "كلمة إباحية هي من فعل "أباح" أي سمح وليس لها أي محمول سلبي إلا في مجتمعاتنا العربية. الحرية حقي وحق كل إنسان على وجه الأرض، وأعني حرية التعبير والعيش والفكر الخ. ثم من قال إن الجنس ليس فعلا "جماليا" بقدر الكتابة الشعرية؟". وتضيف "أنا استفز بالطبع، ويهمني الاستفزاز، لكن ليس بمعناه الفولكلوري المسطّح، إنما ذاك الاستفزاز العامودي الذي يؤدي إلى زلزال يحرك أرض المجتمع والثقافة التي أعيش فيها ويساهم في تغييرها، أقله من منظاري، نحو الأفضل، ليخلصها من خبثها ومعاييرها المزدوجة ونفاقها وبؤسها". وعما اذا كانت تود لعب دور المصلح الاجتماعي، ترد "أحد أدوار الكتاب والمفكرين جعل العالم أقل بؤسا، وأكثر قابلية للاحتمال. لكن هذا الدور ناقص، وإن من دون تعميم، في العالم العربي، حيث المثقف إما يساهم في تعزيز اليأس، أو يكتفي بالبكاء على الأطلال". وإذ أسأل ما كان الهدف الأساسي من تأسيس مجلة "جسد" تجيب الشاعرة حداد أن الهدف الأول "أناني: شغف بالحرية وبالتخطي احمله منذ طفولتي، وهو ما يدفعني لتجاوز العراقيل أمام كل ولادة للمجلة ومع كل عدد جديد. أما الهدف الثاني فعام، وهو أن أعبّر عن غضبي إزاء الشيزوفرينيا والعفونة والترهل التي نعيشها، والتي جعلتنا كشعوب نركض إلى الوراء بدلا من المضي قدما". الأعداد السابقة صدرت من دون احتفالات فلماذا قررت حداد إطلاق العدد السادس ضمن إطار صالون أدبي؟ تقول "عند بدء المشوار، أحببتُ أن تفرض المجلة نفسها بهدوء ومن دون صخب. كنت أيضا حذرة بسبب بعض ردود الفعل العنيفة التي أثارتها، فتجنبت أي إطلالة في مكان عام. أما اليوم فقد باتت "جسد" واقعا يفرض نفسه بعد سقوط الرهان على توقفها. وتاليا حان وقت الاحتفال". وكيف أفلتت من قبضة الرقابة؟ "يعود الفضل في ذلك إلى وجود وزيرين مثقفين لطالما دافعا عن حرية التعبير، هما وزير الإعلام طارق متري ووزير الداخلية زياد بارود، واللذان يدركان ضرورة أن نعمل جميعا في سبيل مجتمع حر ومثقف ومتنور، وأن نعامَل أفرادا وجماعات كراشدين. هما حالا دون منع المجلة رغم الشكاوى التي ما فتئت تصلهما منذ إصدارها الأول". وتوضح "ثم إنني وانطلاقا من احترامي للقارئ قررتُ منذ البدء أن تباع المجلة مغلفة بأكياس بلاستيكية وعلامة تشير إلى أنها للراشدين فقط. "جسد" لا تفرض نفسها على أحد، يشتريها من يقرر ذلك ويتجاهلها من يريد". وما الذي حققته المجلة بنظرها؟ "العدد الهائل من رسائل الدعم والتقدير التي تصلني هي دليل على ما تحققه "جسد" على مستوى هدم بعض الجدران التي تشل حركتنا. المجلة هي أصلا بيت لأهلها ولمحبيها، ومنبر لمن يحترم مثلي ومثل كثيرين ثقافة الجسد، ويأبى أن يستولي الفكر المتخلف على حضارتنا الغنية. غالبا ما يعبر لي القراء عن شراكتهم معي بهذه الرؤية وقناعتهم بضرورة وجود هذه المطبوعة. ثم إنني سعيدة لأنني "ورطت" في هذه المغامرة حشدا من الكتاب والفنانين العرب الذين يشرفون المجلة بمساهماتهم، وربما أكون دفعت شخصا أو اثنين أو ألفا إلى إعادة التفكير في نظرتنا إلى جنسانيتنا وعلاقتنا بأجسادنا، وجعلتهم يقولون ولو في سرهم: "قد تكون هذه المرأة على حق". يكفيني هذا". نذكر أخيرا أن رئيسة تحرير مجلة "جسد" الشاعرة جمانة حداد ترفض نشر مقالات تحت أسماء مستعارة وتبرر ذلك بمسؤولية الكتابة وبأنه "كفانا في العالم العربي اختباء وراء أصابعنا".