عزيزى: عدت إلى بيتى بعد رحلة رائعة قضينا أغلب أيامها فوق النيل وعلى ضفافه. أنا واثقة من أنك تستطيع تقدير ما أحس به الآن وأنا فى بيتى بعد هذه الرحلة. تعرف بيتى ولعلك تذكر تفاصيله من الداخل وتفاصيل الخارج الذى تراه من وراء نوافذه المطلة على القنال الإنجليزية. عشت كل أيامى أتجنب الابتعاد عن البيت فى رحلات بعيدة. إذا ابتعدت غلبنى الشوق إلى هذه التفاصيل فأعود إليها على وجه السرعة لأعيش فى أحضانها سعيدا بمزاج هادئ ونفس راضية. لم يبهرنى مكان حتى صرت أفضله على بيتى فأتمنى العودة إليه حتى جاءت الرحلة التى دعوتنا للقيام بها. تغيرت خلالها وتغيرت معى أشياء كثيرة. يصعب الآن أن أحدد بأى درجة من الدقة كيف وأين ومتى بدأت أنا وأشيائى نتغير؟. تعالى معى نبحث عن نقطة نبدأ عندها فالحديث قد يتشعب إذا رحلت وحدى بعيدا. بدأت حكايتنا بيوم ألقيت محاضرتك فى الجامعة التى كنت أدرس فيها التاريخ وبخاصة الجزء منه الذى تخصصت فيه وهو تاريخ مصر القديمة. يومها وبعد المحاضرة والنقاش الممتع الذى أعقبها طلبت من رئيس الجامعة الاجتماع بكل الطلاب الذين اختاروا تاريخ مصر الفرعونية تخصصا ومهنة وترف حياة. رأيت وأنت الأستاذ أن رصيدنا من قراءاتنا فى المراجع الأوروبية والأمريكية وفى الحفريات المصرية واليونانية والرومانية ومن زياراتنا المتكررة للمتاحف الكبرى ومن محاضرات الخبراء والمولعين بالتاريخ القديم ومن سير الأنبياء وأصول الكتب المقدسة جميعها بدون استثناء، أقول رأيت وأنت الأستاذ أن هذا الرصيد على شموليته وجودته الأكاديمية لا يغنى عن زيارة المواقع الأصلية لهذا التاريخ. ففى زيارة هذه المواقع يمكن للطالب أو الخبير المتخصص أن يختلط إنسانيا برجال ونساء يعيشون فى مواقع عاش فيها المصريون القدامى. هؤلاء يعيشون على ضفاف النهر نفسه ويركبون قوارب تمخر عبابه ويسكنون بيوتا أغلبها من الطمى نفسه الذى فاض به النهر وخلّفه وراءه وراح ينحسر عن الضفاف ليعود إلى مجراه. هؤلاء الناس شيدوا على أطراف النهر قراهم، وفى وسطها أقاموا مساجد وكنائس محل معابد شيدها الأولون، ثم اختاروا من بينهم من وجدوه صالحا أو أعلن عن نفسه صلاحيته للتبشير بعقيدة زمانه. وفى نهاية الاجتماع وجهت لنا الدعوة لزيارة مصر وتعهدت بتنظيم الجزء الخاص بك من الرحلة لنحصل على أقصى فائدة وأوفر خبرة ووعدت بأن تخصص لنا مرشدا من أبناء صعيد مصر أكثرهم ارتباطا بتاريخه القديم وأقدرهم على تجسيد الشخصية المصرية فى كلا العصرين، عصر القدماء والأنبياء والعصر الذى يعيش فيه. عزيزى الأستاذ.. يسعدنى ويمتعنى أن أنقل لك من مفكرتى نتفا مما كتبت خلال رحلتنا فى صعيد مصر، فى قلب مصر القديمة. جعلتنا خلال الرحلة نتخيل أنفسنا نعايش مصريين قدامى قمنا معا باستنساخهم، هدفنا الذى أوحيت لنا به أن نتعرف على أوجه حياة المصريين فى الأزمنة القديمة وعلى أنماط تفكيرهم وعلى علاقتهم بالنهر والسماء. نعيش معهم بعض أحلامهم عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى. • • • كتبت فى مفكرتى «استيقظت على رنين هاتف غرفة نومى. لفت انتباهى قبل أن أرحب بالمتكلم أن لا وجود لصوت محرك الباخرة التى نبيت فيها. عرفت هوية المتكلم من صوته وهو يتمنى لى صباحا خيرا ويوما ممتعا. سألته عن صمت محرك الباخرة قبل أن أسمع تفسيرا ثم تبريرا لهذه المكالمة فى هذا الوقت المبكر، أجاب بصوت منخفض، لقد وصلنا إلى مرفأ المعبد عند الفجر. وكالعادة ومع الشروق رفض القبطان إزعاجكم وكلفنى بهذه المهمة باعتبار أننى المرشد الجديد المخصص لمرافقتكم وإرشادكم بقية أيام الرحلة. يومنا طويل ومن مصلحتنا أن نكون فى المعبد قبل وصول وفود السائحين وتلاميذ المدارس. هيا اخلعوا ثياب النوم واستعجلوا واجبات الحمام وارتدوا ملابس سهلة لا تعيق صعودا متكررا أو وقوفا طويلا أو مشيا فوق رمال ناعمة وصخور مدببة. نلتقى بعد عشرين دقيقة فى المطعم. حمدا لله على سلامتكم وتمنياتى برحلة موفقة». • • • ثم كتبت «أعترف أننى شعرت برعشة هزت كيانى فى اللحظة التى وطأت فيها قدماى مدخل المعبد. أظن أن وجهى اكتسى بالشحوب وأن قدماى كادا يخذلانى فمددت يدى نحو الحائط لأستند عليه فلا أقع. أخطأت فى حساب المسافة التى تفصلنى عن الحائط. لم أعرف أننى أقع إلا عندما وجدت نفسى بين ذراعى المرشد. لا أدرى كيف وصل إلى حيث كنت أقف أستمع إلى حكاية يرويها عن النحات الذى نحت اللوحة التى ازدان بها الجدار. يبدو أنه قفز من بعيد ليحتوينى بين ذراعيه قبل أن أقع على أرض المعبد. فتحت العينين وهو يحملنى لأرى وجه إنسان فى لون ولمعان الوجوه المنحوتة على الجدار. جرب أن ينزلنى لأقف على قدماى فأدركت كم طويل هذا الرجل طول الفرعون المنحنى فى اللوحة تعطفا وحنانا على امرأة كانت جاثية تحت قدميه تصلى له أو تسبح بحمده وكرمه عليها. كم هو جميل رأس الفرعون وكم هو جميل رأس «عزيز» المرشد. عيناى رفضتا التخلى عن النظر إلى الفرعون إلا للنظر إلى المرشد والعودة للفرعون. ثوانٍ مرت بطيئة مرور الزمن فى الذكريات. تمنيت أن تزداد بطئا وأن أبقى معلقة فى رقبة «عزيز». كنت ما زلت بين حال الإغماء واليقظة حين وصل صوته ملفوفا فى أنفاس دافئة إلى أذناى القريبتين من شفتيه وهو يقول بصوته الفرعونى الخشن، اتركوها لى. لن أتخلى عنها. لن تسقط. هى فى رقبتى. ثم خرج بى من وسط المجموعة ومشى نحو ركن فى المعبد غير بعيد فجلس على حجر عال علو كرسى العرش الذى يجلس عليه فرعون وأنا مستلقية فى حجر لا أتمنى غيره لبقية أيام الرحلة مكانا أرتاح فوقه وأنام فيه». • • • أنقل أيضا من مفكرتى «كنا، أعضاء الرحلة، نصعد كل ليلة بعد تناول العشاء إلى سطح الباخرة، نستلقى فى مقاعد مثل مقاعد الشواطئ المتمددة، نراقب النجوم المتلألئة حقا وليس من باب التجمل الإنشائى فى الكتابة. أحيانا كانت النسائم المعتدلة تتمرد فتبرد. يبدو أن مرشدنا اعتبر من بين مهامه المتعددة الإعلان عن انتقال النسائم إلى مرحلة البرودة، وأن النجوم المتلألئة تزداد تألقا وجمالا إذا تأملناها ونحن على ظهورنا متمددين، الأمر الذى يستدعى، حسب رأيه، إحضار وسائد وبطاطين من مخازن الباخرة. لم يتذمر أحد فى المجموعة فى الليلة التالية والليالى اللاحقة لغياب الكراسى. كنا نصعد فور الانتهاء من تناول العشاء إلى السطح لنفترش الوسائد أرضا ونتغطى بالبطاطين. كنت سعيدة بما اكتشفه عزيز: «نقصا فى عدد البطاطين التى يحضرها من مخازنها، ووجد الحل فى أن يحاول كل اثنين مشاطرة بطانية. لم يأت لنفسه بواحدة لكونه لا يبرد. كنا نبرد وآخرنا فى الشكوى المرشد سليل الفراعنة الذى تفاخر فى الليلة الماضية بأنه لا يبرد. لا تمضى من رحلة الليل ساعة إلا وتزداد برودة نسائم الليل. تمضى ساعة أخرى وينضم المرشد الفرعونى هيبة والفرعونى جمالا ليشاطرنى بطانيتى الصغيرة استجابة لدعوة منى، دعوة صادقة ومستحقة». • • • أستاذى.. الشكر، كل الشكر لك. بفضلك وتحت رعايتك زرت بعض أهم معابد مصر. أعود إلى بلدكم عاما بعد آخر. أعود إلى نهركم ونسائمه الباردة وإلى أحضان رجل أسمر وقعت فى حبه.