فى ظل موافقة الكونجرس على بقاء بن برنانكى رئيسا لبنك الاحتياط الفيدرالى لفترة ثانية، فإنه يجب عليه أن يتبنى أجندة بسيطة للغاية، هى إعادة بناء الثقة. لكن هذه ليست مهمته وحده بالطبع. ذلك أن الرئيس أوباما ووزير الخزانة تيموثى جايثنر ليسا لاعبين تافهين. لكن ما يقوله ويفعله برنانكى أى كيف يخطط لدوره ولبنك الاحتياط الفيدرالى مهم للغاية، كما أنه يواجه تحديات جسيمة. يوجد افتراض لدى الاقتصاديين الأكاديميين (القبيلة التى ينتمى لها برنانكى) بأن «السياسية الاقتصادية» تتألف من اتخاذ القرارات حول معدلات الفائدة والضرائب والإنفاق الحكومى واللوائح التى تُترجم بشكل ميكانيكى تقريبا إلى قرارات يتخذها المستهلكون والشركات حول الإنفاق أم الادخار، والتشغيل أم الاستغناء على العمالة، والاستثمار أم الاكتناز. والآن، أصبح برنانكى يدرك بالتأكيد أن هذا النموذج الاقتصادى يمثل نصف الحقيقة فقط فى أحسن الأحوال. لقد صك الاقتصادى البريطانى الشهير جون مينارد كينز (1883 1946) تعبير «نزعات حيوانية» أى اعتماد المستهلكين على المشاعر بدلا من المنطق عند اتخاذ القرارات. ونحن نقول بطريقة أقل تأنقا «مشاعر». وأيا كان اللفظ المستخدم، فإن الدرس الذى لم يتغير هو أن المشاعر تُعد أمرا مهما. ذلك أن الانتعاش يتحرك فى مناخ من الإفراط فى الثقة، بينما يثير الإفلاس مخاوف كبرى. ويتطلب تحقيق التعافى درجة متزايدة من التفاؤل، لأنه بدون ذلك، سوف يقصر المستهلكون القانطون الشراء على أهم الضروريات، فى الوقت الذى تؤجل فيه الشركات عمليات التشغيل والتوسع. ووفقا للعديد من المقاييس، لم يحدث تحسن يُذكر فيما يتعلق بالثقة. فعندما كانت الأزمة فى أكثر حالتها عمقا فى أكتوبر 2008، رأى 73 % من الأمريكيين أن الاقتصاد فى وضع «بائس»، بينما اعتبر 84 % أنه كان «يتجه إلى الأسوأ»، وفقا للمسوح التى أجرتها جالوب. وحسب الاستجابات التى وردت فى منتصف يناير، هبط هذان المعدلان إلى 47 % و58 % على التوالى وهى نسب محزنة لكنها أفضل من السابقة. لقد انخفضت معدلات الفائدة على العديد من السندات بحدة. وفى أكتوبر 2008، بلغت الفائدة على سندات الشركات مرتفعة المستوى 9.5 %، بينما أصبحت الآن نحو 6.2 %. وأصبح المقرضون أقل نزوعا إلى تجنب المخاطر، بينما تعمل أسواق الائتمان بطريقة أفضل، بالرغم من الأضرار التى تعرضت لها. ومع ذلك، مازالت الثقة مفقودة نتيجة أسباب واضحة، حيث يبلغ معدل البطالة 10 %، وقد ييقى مرتفعا هكذا لأعوام. ويشير مكتب الموازنة التابع للكونجرس إلى أن هذا المعدل سيبلغ 10.1% فى المتوسط خلال العام الحالى، و9.5 % فى 2011، و8 % فى 2012. وفى ظل تلك الخلفية، تواجه مهمة برنانكى فيما يتعلق ببناء الثقة مشكلتين. تتمثل المشكلة الأولى فى أن الكثيرين فى الحكومة الفيدرالية يتآمرون من أجل تقويض الثقة. ولكن كيف يحدث ذلك بالأخذ فى الاعتبار أهمية السيكولوجيا؟ الأمر بسيط، حيث إنه عادة ما تحفز الأزمة إما على الوحدة السياسية (نحن جميعا نواجه ذلك معا)، أو على اللجوء إلى الألاعيب (وجهوا اللوم للآخرين، لا لى). وقد ولدت الأزمة الأخيرة نزوعا نحو النهج الثانى أكثر من الأول. ولاشك أن تقصى الحقائق والإجراءات التصحيحية تمثلان أمرا حتميا ومرغوبا. لكن معظم ما يحدث اليوم هو نوع من الإبهار السياسى للجمهور باستخدام وسائل عتيقة. ولاشك أن برنانكى لم يتوقع الأزمة، لكن استجابته الهجومية ساعدت على احتواء الخسارة. وبالرغم من أن وصف برنانكى وبنك الاحتياط الفيدرالى باعتبارهما خادمى وول ستريت كان بمثابة تنفيس عن حالة الغضب الشعبى، إلا أن هذا الوصف لا يفسر ما حدث. وتواجه المقترحات غير الحكيمة بتقييد سلطات الاحتياط الفيدرالى أى تقليص سلطاته فيما يتعلق بمراقبة المؤسسات المالية الكبرى، وإخضاعه للمراجعات المستمرة قبولا متزايدا. لكن هذه المقترحات تكتنفها المخاطر، حيث إن أحد أعمدة الثقة هى الشعور بأن الاحتياط الفيدرالى يمكنه أن يتصرف بسرعة وحسم فى وقت الأزمات. ويقال إن ذلك هو الذى حمانا من الدخول فى ركود أكثر عمقا. لكن الكونجرس يمكنه الآن الحد من هذه السلطات أو الحط من قدر الاحتياط الفيدرالى ومن ثم ترهيبه. ولعل ما يعزز من حالة عدم التأكد هذه هو القضايا السياسية المعلقة بما فيها الرعاية الصحية و«الإصلاح» المالى. وكان قرار الإدارة بالدفع قدما فى اتجاه سن تشريع الرعاية الصحية بمثابة خطأ فادح، لأنه زرع الشقاق واستهلك وقتا كثيرا أحدث شللا فى الفعل فيما يخص قضايا أخرى. وتراجعت خطط الشركات واستعداداتها للتوسع لأن توقع التكاليف والعوائد لديها أصبح أكثر صعوبة. أما المشكلة الثانية فهى حاسمة بالرغم من كونها مشكلة فنية. ذلك أنه خلال الأزمة، أصبح الاحتياط الفيدرالى «مقرض الملاذ الأخير» لجزء كبير من الاقتصاد، وهو ما أسفر عن ابتكار تسهيلات خاصة للإقراض، بهدف تعزيز البنوك وصناديق أسواق النقد وسوق الأوراق التجارية. وقد نما حجم القروض التى قدمها الاحتياط الفيدرالى بأكثر من تريليون دولار. وأدت هذه التسهيلات إلى احتواء الهلع فى قطاع التمويل، واستئناف تدفق الائتمان الذى تقدمه بنوك القطاع الخاص. وبالرغم من أن الاحتياط الفيدرالى سيوقف معظم هذه التسهيلات بحلول بداية فبراير، فإنه سوف يوسع من قروضه إلى مجالات أخرى. وتحديدا، لقد ألزم الاحتياط الفيدرالى نفسه بشراء سندات خزانة وأوراق مالية مرتبطة بالرهون العقارية بقيمة 1.75 تريليون دولار. وكان الهدف من ذلك تقليل معدلات الفائدة طويلة الأجل. وتشير بعض الدراسات إلى أن هذه المعدلات قد انخفضت بمقدار نقطة مئوية واحدة بالنسبة لبعض الرهون العقارية، ونصف نقطة مئوية بالنسبة لسندات الخزانة التى مدتها 10 سنوات. ولعل السؤال المطروح الآن هو متى وكيف تتوقف سياسة الإقراض السهل هذه التى يجرى التوسع فيها عبر جعل الفائدة على قروض الليلة الواحدة صفرا. فقد توقفت بالفعل مشتريات سندات الخزانة، بينما من المقرر أن يتوقف شراء الأوراق المالية المرتبطة بالرهون العقارية فى مارس المقبل. ويواجه الاحتياط الفيدرالى معضلة كلاسيكية. فإذا تراجع عن منح القروض السهلة بسرعة أكثر من اللازم، فإن ارتفاع معدلات الفائدة قد يقوض الانتعاش. لكن الاستمرار فى سياسة الإقراض السهل لوقت أطول من اللازم سوف يؤتى بنتائج عكسية، إذا ترتب عليه ارتفاع التوقعات بشأن التضخم وقام بإضعاف الثقة فى الدولار. لاشك أن برنانكى سوف يستمتع بتأكيداته، لكن قدرته على بعث الثقة تتوقف على ردود فعله إزاء المشكلات السياسية والاقتصادية الضخمة، المعلوم منها وغير المعلوم. Washington Post Writers Group