لو كان يوسف أبو رية بيننا الآن لاحتفل السبت قبل الماضى بعيد ميلاده الرابع والخمسين،وبإصدار «دار الشروق» لروايته التى صارت الأخيرة «ليالى البانجو»، لكنه آثر الرحيل فى 12 يناير من العام الماضى، بفارق عشرة أيام بين يومى ميلاده ووفاته، مخلفا فضاء لن تملأه روايته الأخيرة وحدها، ولا مقالات أصدقائه فى ذكرى الغياب، ولا خبر فوز محمد مستجاب الابن بجائزة تحمل اسم أبورية، ولا فوزه هو نفسه بجائزة التفوق العام الماضى، فلن يكتمل كل ذلك إلا بإدراك مرارة الفقد التى ما زالت رغم تكرارها طازجة. رحل أبورية ورحلتْ أيضا «مها» بطلة «ليالى البانجو»، اصطادتها طعنة غامضة وهى فى طريقها للقاء حبيبها القديم، وانطلق السؤال: «من الذى قتل مها»؟ الزوج المهجور؟، الحبيب النذل؟، العم والأب المفجوعان فى شرفهما وأشياء أخرى؟، أم عاطف أبو الخير صديق الحبيب الذى تلبسته غيرةٌ مفاجئة على ابنة طبقته من تغرير شاب سليل إقطاعيين بها؟ أسئلة انتهت الرواية دون أن تجيب عنها، وغير مطلوب من القارئ أيضا أن يفتش عن جواب، فالكاتب لم يعده برواية بوليسية، رغم حس المطاردة، والتواطؤ الخفى بين كل أطراف الحدوتة التى يخون كلٌ منها الجميع، ويدرك الكل خيانة الآخرين له، ورغم التلويح بأكثر من جريمة قتل وقعت إحداها بالفعل وغيبت البنت. والحكاية أن بنتا أجبرها أبوها على الزواج من رجلٍ فلاح موظف، تكره أمه بنات المدن، وكان لها فتى تحبه، أكثر وسامة وأرقى فى تعامله من الزوج الشهوانى التقليدى الذى يرفضه كل من جسدها وقلبها. البنت رغم حملها من الأخير هربت منه إلى بيت أبيها فى المدينة ومنه إلى حبيبها الذى صحبته إلى العاصمة ليتدبرا أمر طلاقها وتخليصها من الجنين الذى سيربطها بأبيه ويعقد إجراءات الانفصال، ولكن تعرف أسرة البنت بمكانها عن طريق صديق الحبيب الذى عرف بسر صديقه فى إحدى سهرات ليالى البانجو، فدل الأسرة على مكان البنت، التى ما إن ترى عمها حتى يذهب عقلها وتبدأ الحديث مع كائنات وهمية، وتعود البنت بجنونها الذى ينقذها مؤقتا من الموت الذى كانت تجهزه أسرتها ثأرا لشرفها، قبل أن تسترد روحها تدريجيا وتعاود الهرب باتجاه نفس الحبيب المتخاذل فتطالها طعنة تكتب النهاية وتطرح السؤال، يقول أبورية: «ظهرها بالكامل عكس اتجاه بيوت البلدة، ووجهها نحو الباب المغلق بجنزير صدئ. وقبل الصعود إلى الرصيف بمسافة كبيرة جاءتها الطعنة المفاجئة، كانت الضربة من القوة بحيث نفذت إلى القلب مباشرة، ولم تستطع الوقوف على ساقيها، كما لم تستطع الالتفات للطاعن لتتعرف عليه. وسقطت فى بركةٍ من الدم الحار». الآن ارتاحت «مها» تلك البسيطة من الجميع، فجسدها بعد اليوم لن تخنقه جلافة الزوج الفلاح «سيد عبيد» الذى أُجبرت على الزواج منه وهجران حبيبها «خالد فخرالدين»، ارتاحت أيضا من نذالة وخذلان هذا الأخير لها، فهى ابنة موظف صغير لا يملك غير راتبه الذى يستر هيبته كواحدٍ من الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى، أما أبوه فينتمى إلى كبار الملاك، وله قرية تحمل اسمه فى إحدى دوائر المركز، «كل هذا بحسابات الحقبة الناصرية التى تمنح الطبقتين قدرا من التوازن، الأول بمكانة الأفندى الذى يعيش بضمان راتبٍ آمنٍ، والآخر بما يملكه كحدٍ أقصى للملكية التى حددتها قوانين الإصلاح التى أطاحت بالأرستقراطية القديمة». البنت ارتاح جسدها أيضا من النظرات والاحتكاكات غير البريئة التى يصوبها إليها كبيرا عائلتها الأب والعم، ومن ثقل السر الذى تشارك أباها كتمانه عن أمها التى يخونها الأب مع زميلة العمل المنتقبة. لكن مها على مركزيتها فى القصة لم تكن البطلة، وحكايتها البسيطة لم تكن غاية رواية أبورية الأخيرة، فالمكان بتفاصيله الحميمة والدقيقة كان أمتع مناطق الحكى وأكثرها ثراء، هذا المكان برع الكاتب فى رسمه مفرقا بدقة بين عوالم الريف الأثيرة، وعوالم المدن المتاخمة لهذا الريف، والتى تختلف بدورها عن عالم وظروف الحياة فى عاصمة الإقليم ومن ثم العاصمة الكبرى القاهرة. أيضا استطاع الكاتب برشاقة أن يخترق عددا من القضايا التى يصنف بعضها بالمسكوت عنه كزنى المحارم، وهشاشة الكثير من العلاقات الزوجية، وتحكم الأبعاد الطبقية فى العلاقات العاطفية وغيرها. أخيرا فإن رواية أبورية التى صدرت مؤخرا عن دار الشروق، ستظل محل جدل، ليس فقط لجمال لغتها واختلافها وثراء الوصف والحكى بها، لكن لأنها روايته الأخيرة، ما قاله الكاتب وما امتنع عن قوله وما بثه بين السطور سيظل غامضا، لأن مرثية كتلك التى صنعها لبطلة روايته تصلح بالتأكيد لأكثر من ذلك، ربما لرثاء ذاتٍ أو وطن أو حتى للجميع، فمن يا ترى كان يرثى أبورية؟. يذكر أن يوسف أبورية من مواليد 2 يناير 1955 بمركز ههيا بمحافظة الشرقية، حصل على شهادته الجامعية فى الإعلام من جامعة القاهرة وعمل فى مركز البحوث كمدير عام. وكان أمينا عاما لصندوق رابطة القلم المصرية طوال الاعوام ال 13 الاخيرة من حياته. وللراحل سبع مجموعات قصصية أولها «الضحى العالى» التى نشرت فى 1985. ومن مجموعاته ايضا «طلل النار» و«شتاء العرى» و«عكس الريح» و«ترنيمة الدار». كما ألف خمس روايات هى «ليلة عرس» و«صمت الطواحين» و«عطش الصبار» و«الجزيرة البيضاء» و«تل الهوى»، وأربعة كتب للاطفال هى: «خبز الصغار» و«أسد السيرك» و«الأيام الأخيرة للجمل» و«طفولة الكلمات».