الولايات المتحدة بلد الإحصاءات، نجد فيها استطلاعا حول التوجهات الدينية، وآخر حول الموقف من الجنس، ودراسة رأى عام حول الموقف من السياسة الخارجية أو الهجرة. من ناحية أخرى تمتاز الاستطلاعات بالعمق والحرفية العالية، لذا يمكن أن تعتبر استطلاعات الرأى الأمريكية ثروة معلوماتية لا نظير لها. هذا ما قام بها الكاتبان، اللذان رصدا توجهات الرأى العام الأمريكى طوال 63 عاما بدءا من 1945. وتكمن أهمية هذا الكتاب فى أن تحولا جذريا طرأ على الرأى العام الأمريكى، حينما فاز الرئيس باراك أوباما فى الانتخابات الرئاسية قبل العام الماضى، ليصبح أول رئيس أسود من أصول مسلمة مهاجرة. كما شهد المجتمع الأمريكى تحولا ديموجرافيا بزيادة أعداد المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط وآسيا (الصين والهند)، وهو ما خلق حضورا قويا لأديان لم يكن لها حضور مثل الإسلام والبوذية والهندوسية، إلى جانب المسيحية بطوائفها واليهودية بمذاهبها. كما أن تبدلا واضحا حدث خلال العقود الثلاثة الأخيرة تجاه قضايا حقوق المثليين، والحق فى الإجهاض. الرأى العام: عدسة للتعرف على تطور المجتمع يقوم الكتاب على استخدام استطلاعات الرأى العام كعدسة للتعرف على تطور المجتمع. ومن هنا يقوم الكاتبان بما يمكن وصفه بأنه «إحياء لمادة تاريخية»، على أساس أن المادة التى تم استخدامها هى نتاج استطلاعات رأى قامت بها مؤسسات عديدة مثل بيووجالوب وآى. بى. سى نيوز وغيرهما. وقد قام الكاتبان باختيار سبع قضايا على أساس كونها قضايا جدلية أحدثت انقساما اجتماعيا وعبأت خلفها قوى سياسية بشكل أو بآخر على نحو يسمح ليس فقط بالتعرف على توجهات المجتمع، وإنما وتيرة التطور القوى الاجتماعية والسياسية التى تحركه. والقضايا السبع التى تناولها الكتاب هى: الرأى العام تجاه اليهود والمسلمين والسود والشواذ والتمييز الإيجابى والهجرة والإجهاض. وبينما يستعرض الكتاب تطور اتجاهات الرأى العام كما تظهرها استطلاعات الرأى، يجد القارئ أيضا عرضا لوتيرة التطور الذى قاده الكونجرس والمحاكم ومؤسسة الرئاسة، وما إذا كانت هذه المؤسسات واكبت تطور الرأى العام أم تخلفت عنه أم سبقته. وهو الأمر الذى اختلف باختلاف القضايا والحقب الزمنية. قضايا المجتمع الأمريكى: رحلة عبر الزمن من أجل استعراض هذه العلاقات بين مؤسسات المجتمع الأمريكى وتوجهات الرأى العام فى إطار ديناميكى يعكس سخونة هذه القضايا والانقسامات حولها، بدأ الكاتبان بسبعة فصول اختص كل منها بعرض قضية بشكل منفصل وتوجهات الرأى العام حيالها وأهم التطورات التى لحقت بها. بعدها خص الكاتبان كل عقد من 1945 وحتى 2008 بفصل مستقل يعرض أهم الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المحلية والدولية، التى يمكن أن تكون قد أثرت على الرأى العام، وكيف استجابت لها المؤسسات السياسية والاجتماعية. ومن هنا يأخذ الكتاب قارئه فى فصوله السبعة الأخيرة فى رحلة زمنية ومكانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى المظاهرات المطالبة بالمساواة بين السود والبيض فى الستينيات، وتطور منظومة الضمان الاجتماعى، وأزمات مؤسسة الرئاسة من فضيحة ووترجيت إلى الصدام بين جورج بوش والمحكمة الدستورية العليا حول حقوق معتقلى جوانتانامو. اتجاهات الرأى العام بين الثبات والتغير يكشف استعراض نتائج هذا العمل توجها عاما نحو الليبرالية الاجتماعية وتقبل الآخر داخل بوتقة المجتمع بدرجات متفاوتة، كما تكشف النتائج وجود درجات من التفاوت، بين الرأى العام من ناحية، وبين مؤسسات الحكم وبعضها البعض من ناحية أخرى. ففيما يتعلق بالرأى العام تجاه السود واليهود، نجد تقدما ملموسا نحو القبول وزيادة مطردة فى الآراء الإيجابية تجاه هاتين الجماعتين. وهو ما يعد تحولا كيفياُ بارزا بالنظر إلى الآراء التى سادت خلال العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية، ففى خلال هذه الفترة أظهرت استطلاعات الرأى نظرة متدنية لإمكانات السود وقدرتهم على الحراك وتولى نفس المناصب التى يتولاها البيض والتأثير الإيجابى فى المجتمع، بينما كانت النظرة لليهود تقوم على فكرة أنهم أميل للانكفاء على الذات وتفضيل جماعتهم على غيرهم، كما أنهم مسيطرون فى مجالات المال والأعمال وأكثر موالاة لإسرائيل من موالاتهم لوطنهم الأمريكى. ورغم استمرار ظهور نسب تؤيد هذه الآراء فى استطلاعات الرأى حتى اليوم، إلا أنها فى اتجاه تنازلى واضح بشكل ملحوظ، خاصة فيما يتعلق بالسود وإمكانات تطورهم وإسهامهم فى المجتمع. كما ظهرت قضايا أخرى على قائمة القضايا التى شهدت تحولا ليبراليا واضحا، وعلى رأسها الموقف من قضايا الشواذ، والتى شهدت قبولا متزايدا، وإن لم يكن التوجه نحو المزيد من القبول متصاعدا على طول الخط، حيث تتأرجح عبر السنوات، كما يظهر تأثر القبول بحقوق الشواذ بدرجة التدين والانتماء السياسى، حيث إن الجمهوريين أقل ميلا للقبول بهذه الحقوق، خاصة ما يتعلق منها بالزواج والخدمة فى الجيش، وهو ما يظهر كذلك فيما يتعلق بقضية الإجهاض. هذا وتسترعى اتجاهات الرأى العام تجاه المسلمين النظر من عدة جوانب، أولها تأخر استطلاعات الرأى تجاه المسلمين فى الظهور مقارنة باستطلاعات الرأى عن فئات وجماعات أخرى مثل السود واليهود، حيث ظهرت أوائل استطلاعات الرأى تجاه المسلمين مع الألفية الجديدة، وهو ما يمكن إرجاعه أيضا إلى تأثير أحداث الحادى عشر من سبتمبر. وربما يرجع تأخر ظهور استطلاعات رأى تجاه المسلمين إلى عدم تشكل تنظيمات قوية للمسلمين الأمريكيين تطرح قضاياهم بشكل محدد على ساحة النقاش والعمل العام، سواء بشكل عنيف، كما حدث فى مظاهرات وحركات الحقوق المدنية للسود خاصة فى حقبة الستينيات، أو بشكل تدريجى وهادئ، كما فعلت الجماعات اليهودية. والملاحظة الثانية اللافتة للنظر هى اختلاف الرأى العام تجاه المسلمين عن الرأى العام تجاه الإسلام، حيث الرأى العام تجاه المسلمين أكثر إيجابية، وإن ظل المسلمون أقل الفئات الاجتماعية حصولا على آراء إيجابية فى استطلاعات الرأى، ولا يقل عنهم سوى الملحدون، ورغم هذا تبقى الآراء الإيجابية تجاه المسلمين أكثر من 50% من الآراء فى أغلب استطلاعات الرأى. كما يتجه الرأى العام تجاه المسلمين للتأثر بقوة بالانتماء السياسى، حيث إن الجمهوريين أميل لأن يحملوا انطباعات أكثر سلبية عن المسلمين من الديمقراطيين، والخوف من حدوث اعتداءات إرهابية. وفيما يتعلق بالرأى العام تجاه الإسلام، تظهر استطلاعات الرأى ضعفا فى المعرفة بأركان الدين الإسلامى، وإن كانت الشرائح الأصغر سنا والأقليات العرقية، خاصة السود يظهرون نسبة أعلى من المعرفة بالإسلام ويحملون آراء أكثر إيجابية تجاهه. ومع هذا التطور، فقد بدا المجتمع أكثر ميلا للاتجاه المحافظ فيما يتعلق بقضايا أخرى، وعلى رأسها قضية الهجرة، حيث شهدت استطلاعات الرأى استقرارا شبه متواصل فى الاتجاه الرافض لتوسيع نطاقها. وفى هذا المجال بدا الكونجرس متقدما عن الرأى العام فى توسيع مساحة الهجرة لأسباب عديدة بعضها اقتصادى وبعضها الآخر يتعلق بالأصوات الانتخابية والتفصيلات السائدة فى الدوائر الانتخابية. كما برزت المحكمة الدستورية العليا كرائد فى مجال التمييز الإيجابى، حيث واجهت الإدارة فى أحيان كثيرة، وإن كانت لم تصغ اتجاها ثابتا فى هذا المجال، بينما تأثر الرأى العام تجاه هذه القضية بالانتماء السياسى، حيث يعتبر الديمقراطيون أميل لقبول مثل هذه السياسات، والنوع، حيث المرأة أثر ميلا لتأييد سياسات التمييز الإيجابى، وهو ما يعد أمرا طبيعيا بالنظر لاعتبارها إحدى الفئات المستفيدة، كما تؤيدها كذلك الأقليات العرقية مثل السود والمواطنين من أصول لاتينية، وهم أيضا من الفئات المستفيدة. نظرة على المستقبل والفئات الشابة: حركة اجتماعية أم تعبئة سياسية؟ يختتم الكتاب بنظرة مستقبلية فى فصله الأخير، يطرح فيها التساؤل حول مستقبل المجتمع الأمريكى، خاصة قطاع الشباب، وتساءل حول الزخم السياسى والحراك الاجتماعى الذى أحدثه الرئيس أوباما خلال حملته الانتخابية. فقد أظهرت شريحة الشباب قابلية عالية على التنظيم والعمل التطوعى، وأبرزت مهارة سياسية نجحت فى حشد الجهود حول دعوة التغيير والخروج عن الأطر التقليدية التى حكمت حركة المجتمع لعقود طويلة. فتطور اتجاه واضح نحو قبول الآخر والرغبة فى التقارب مع العالم الخارجى، كما بزغ فى الأفق توجه نحو المشاركة الفاعلة مما دعا الكاتبين لطرح تساؤل حول ما إذا كان هذا الزخم السياسى لقطاع الشباب يمثل حركة اجتماعية من شأنها تغيير صورة الولاياتالمتحدة أمام العالم وتسيير الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية وتيسير التكامل الاجتماعى من خلال ضم الأقليات العرقية والدينية كأطراف فاعلة ومؤثرة فى العملية السياسية.