نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب أحمد نظيف، تحدث فيه عن مبادرة الرئيس التونسى قيس سعيد لتغيير النظام السياسى، باعتباره السبب وراء الأزمة الهيكلية الحالية فى البلاد، كما تناول أهم التحديات التى تعترض هذه المبادرة.. نعرض منه ما يلى. ظلت الأزمة السياسية فى تونس تتصاعد منذ أشهر من دون حلّ، ويرجع ذلك فى جزء منه إلى الدستور، الذى أقرّ فى العام 2014، نظاما تتشابك فيه صلاحيات المؤسسات الدستورية، وانتهى الأمر إلى الصراع القائم اليوم بين الرئيس من جهة والبرلمان والحكومة من جهة أخرى. وأمام حالة الجمود الحالية، دعا الرئيس قيس سعيد فى أكثر من مرة إلى التوجه نحو تغيير النظام السياسى القائم، فيما تخشى حركة النهضة الإسلامية وحلفاؤها خسارة الامتيازات الانتخابية التى حققها لها نظام تقاسم السلطات ونظام الاقتراع الحالى. مبادرة الرئيس كان الرئيس التونسى، قيس سعيد، يطالب بتغييرات جذرية على النظام السياسى والنظام الانتخابى، معتبرا أن الديمقراطية التمثيلية الراهنة قد وصلت إلى طريق مسدود فى الوفاء بتطلعات الناس وآمالهم. ثم ظهر موقفه جليا بعد ذلك فى توجيه نقد مباشر للمنظومة الحزبية، خاصة للعمل البرلمانى بشكله الحالى، وتجاوزات النواب وقضايا الحصانة. وخلال لقاء جمعه برؤساء الحكومات السابقين، فى 13 يونيو الماضى، أعلن سعيد صراحة عن دعوته لتغيرات جذرية تطال «التنظيم السياسى الحالى وطريقة الاقتراع المعتمدة»، والتى أدت إلى ما اعتبره «الانقسام وتعطّل السير العادى لدواليب الدولة»، غير أنه قد وضع هذه المرة الإطار الواضح لهذه التغييرات المأمولة وهو «الحوار الوطنى»؛ حيث كانت العديد من القوى والأصوات تخشى أن يذهب الرئيس نحو تغييرات قسرية يعتمد فيها على «إجراءات فوق دستورية» أو حتى دستورية استثنائية، مثل إعلان «حالة الخطر الداهم» كما يشير إليها الدستور التونسى فى فصله الثمانين. وقد نجح سعيد هذه المرة فى فرض شروطه على أجندة الحوار الوطنى، التى انطلقت الدعوة له منذ أشهر بدعم من الاتحاد العام التونسى للشغل؛ حيث بدا واضحا أنه لا يريد إعادة إنتاج نسخة الحوار الوطنى للعام 2013، التى نجحت فى فض الاشتباك مؤقتا بين حركة النهضة والمعارضة العلمانية، ولكنها لم تعالج جذور الأزمة. وقد أشار الرئيس سعيد ضمنيا إلى ذلك فى لقائه مع رؤساء الحكومة السابقين بالقول: «لن يكون الحوار محاولة يائسة لإضفاء مشروعية كاذبة ولن يتم إلا لحل مشاكل التونسيين ولن يكون كسابقيه». تنطلق مبادرة قيس سعيد من ركيزة أساسية مفادها أن الأزمة الهيكلية والسياسية التى تمر بها تونس سببها الجذرى هو طبيعة النظام السياسى الهجين، شبه البرلمانى – شبه الرئاسى، القائم على تقاسم الصلاحيات الدستورية بشكل معقد؛ حيث ينتهى إلى شلّ عمل السلطة التنفيذية عن أداء وظائفها من حيث إدارة الدولة وتحقيق التنمية، وتقسيمها بين رئيس منتخب من الشعب مباشرة ورئيس حكومة مُعين، وكذلك النظام الانتخابى القائم على «نظام القائمة النسبية مع اعتماد أكبر البواقى»، والذى يكرس تشتت الحاصل الانتخابى؛ حيث يريد الرئيس تكريس نظام التصويت على الأفراد، وتغيير الدوائر الانتخابية نحو شكل من أشكال الديمقراطية المباشرة. تحديات متعددة يوجد شبه إجماع فى تونس على ضرورة إدخال تغييرات على النظام السياسى والانتخابى القائمين. لكن الجدل والاختلاف يقعان ضمن دائرة حدود هذه التغيرات وشكلها وأدواتها؛ حيث يذهب الرئيس قيس سعدى بعيدا فى الدعوة للتغيير الجذرى وفاءً لفكرته التى دافع عنها منذ الحملة الانتخابية وهى «الديمقراطية المباشرة»، فيما يؤيد قطاع واسع من الطبقة السياسية الحزبية، يسارا ويمينا إرادة التغيير هذه، شرط أن تعدل النظام السياسى الهجين إلى نظام رئاسى كامل أو برلمانى كامل للخروج من معضلة تقاسم الصلاحيات وتشابكها. بيد أن اقتناع جزء من الأحزاب بوجاهة التوجه الرئاسى نحو إدخال تغيرات، جذرية كانت أو جزئية، على النظام السياسى الدستورى ليس كافيا؛ حيث يحتاج الرئيس لتحقيق مبادرته إلى جانب الإطار التشاورى، وهو الحوار الوطنى، واحترام الإجراءات الدستورية التى تتم فيها هذه التغييرات، كما ينص عليها باب «تعديل الدستور» فى الدستور التونسى، والذى يعطى لمبادرة رئيس الجمهورية أولوية النظر، لكنه يشترط موافقة ثلثى أعضاء مجلس نواب الشعب، ثم عرض التعديل على الاستفتاء العام، ويتم قبوله فى هذه الحالة بأغلبية المقترعين. وإذا كان الرئيس يمتلك فى الوقت الراهن شعبية واسعة نسبيا، وفق أغلب استطلاعات الرأى تمكنه من ضمان نتيجة أى استفتاء لتعديل النظام، إلا أنه قطعا لا يملك موافقة ثلثى أعضاء البرلمان، الذى تحوز فيه حركة النهضة وحلفاؤها على الأغلبية. كما أن جزءا من النواب، غير المنتمين لائتلاف الأغلبية داخل البرلمان لديهم تحفظات على مواقف الرئيس بشكل عام، وعلى توجهاته لتغيير النظام السياسى القائم؛ حيث يدافع الحزب الحر الدستورى، بزعامة عبير موسى مثلا عن ضرورة تغيير النظام السياسى الحالى، لكنه يرى أن الحلّ فى العودة للنظام الرئاسى الكامل، وليس التوجه نحو «نوع جديد من الديمقراطية» بالشكل الذى يريد الرئيس سعيد تكريسه. وثمة تحدٍ آخر يعترض مبادرة أو سعى الرئيس لتغيير النظام السياسى والقانون الانتخابى، وهو الضبابية التى يتميز بها هذا السعى حتى الآن؛ حيث لم يطرح الرئيس طيلة هذه المدة أى مقترحات أو خطوط واضحة لشكل هذا التغيير وحدوده، لذلك ما زالت العديد من القوى السياسية تمتنع عن إبداء مواقفها حول «المبادرة»، ويبدو أن الرئيس سعيد يريد أن يكون الحوار الوطنى هو الإطار الذى تناقش فيه هذه المقترحات أو التوجهات. وكان ذلك واضحا فى اجتماعه برؤساء الحكومة السابقين عندما قال: «لندخل فى حوار جدى.. يتعلق بنظام سياسى جديد وبدستور حقيقى، لأن هذا الدستور قام على وضع الأقفال فى كل مكان، ولا يمكن أن تسير المؤسسات بالأقفال والصفقات»، الأمر الذى يوحى بأن سعيد لديه النية لتقديم تنازلات للتوافق على مسألة تغيير النظام السياسى. عوائق النهضة فى المقابل تقف حركة النهضة وحيدةً فى الدفاع عن النظام القائم باعتبارها أكبر المساهمين فى صياغته عندما كانت تملك الأغلبية فى المجلس الوطنى التأسيسى (2011 2014)، وأيضا كونها أكبر المستفيدين منه، كما تلعب الاعتبارات التاريخية دورا مهما فى هذا الموقف؛ حيث خاضت الحركة الإسلاموية صراعا كبيرا مع الدولة تحت حكم النظام الرئاسى المطلق خلال أربعة عقود، ولديها خشية من تكريس نظام رئاسى جديد يمكن أن ينهى وجودها، خاصة فى ظل توتر العلاقة مع الرئيس قيس سعيد. لكن الأزمة الخانقة التى تعيشها البلاد، اقتصاديا وسياسيا، جعلت حركة النهضة، باعتبارها الداعم الأساسى لحكومة هشام المشيشى، تسعى بكل جهدها نحو أى جولة جديدة من «الحوار الوطنى» لإنقاذ نفسها من ورطة تحمل مسئولية فشل الحكومة، كما حدث فى العام 2013، فى أعقاب موجة الاغتيالات السياسية التى طالت رموز المعارضة العلمانية، لذلك تلقفت مبادرة الاتحاد العام التونسى للشغل مبكرا منذ طرحها أوائل العام الحالى، فيما اصطدمت بشروط الرئيس سعيد حول مضمون الحوار وأهدافه. وعلى الرغم من مواصلة شبكاتها الإعلامية والسياسية الهجوم على الرئيس وسياساته بشكل عنيف، فإنها فى الوقت نفسه بقيت تبحث عن صيغة للتسوية معه من دون جدوى، فى محاولة لإعادة إنتاج توافقات جديدة، لكن معضلة النهضة أنها وقعت فى صراع مع شخصية قادمة من خارج الأطر التقليدية للطبقة السياسية التونسية ولا تعترف بالمساومة. مسارات مستقبلية يبدو الوضع فى تونس غائما، فى ظل الاستقطاب الشديد، والتوتر بين الرئيس وحركة النهضة من خلفها البرلمان والحكومة، وذلك من شأنه أن يحد من إمكانية تحليل المسارات المستقبلية للأزمة الراهنة التى تعيشها البلاد. ولكن يمكن هنا طرح عدد من السيناريوهات المستقبلية المحتملة: سيناريو قبول جميع الأطراف بالجلوس على طاولة الحوار والتوافق على المضى فى تغييرات جزئية للنظام السياسى وتغيير النظام الانتخابى، ولا يبدو هذا المسار مستحيلا، خاصة فى ظل تأزم الأوضاع التى تنذر بسقوط مؤسسات الدولة، وفى ظل مؤشرات تقارب بين الرئيس سعيد ورئيس البرلمان راشد الغنوشى بوساطة من القيادى السابق فى حركة النهضة لطفى زيتون. سيناريو التوجه نحو انتخابات تشريعية سابقة لأوانها للخروج من الأزمة، وهى انتخابات يمكن أن يختبر كل طرف شعبيته فيها، ويمكن أن تتغير فيها قواعد اللعبة الحالية تماما فى ظل صعود قوى لشعبية الحزب الحر الدستورى وزعيمته عبير موسى وتراجع واضح لشعبية حركة النهضة. سيناريو تفعيل الإجراءات الدستورية الاستثنائية؛ حيث يمكن للرئيس قيس سعيد أن يعتبر الركود والجمود اللذين تمر بهما الدولة «خطرا داهما» كما يفسره الدستورى فى فصل الثمانين ويعلن عن تدابير استثنائية. سيناريو بقاء الوضع على ما هو عليه، وهو أخطر مسار يمكن أن تسلكه الأزمة؛ حيث تعانى البلاد أزمات متعددة، اقتصادية ووبائية وسياسية، يمكن أن تقود القطاعات الأكثر تضررا، من الطبقات الفقيرة والوسطى وصغار الكسبة إلى الخروج مرة أخرى إلى الشوارع وربما إعادة سيناريو العام 2011 بشكل أكثر عنف وجذرية. النص الأصلى: هنا