يضم العالم في جوفه وظاهره كنوزا أثرية مهيبة وتحفا فنية عديدة، بل ومعالم لم يقل رونقها رغم مرور الزمن، كل منها تحوي وتحمل قصتها وأسرارها الخاصة، فوراء كل اكتشاف ومعلم حكايات ترجع لعصور بعيدة وأماكن مختلفة، على رأسها تلك القطع الفريدة والمعالم التاريخية المميزة في بلادنا، صاحبة الحضارة الأعرق في التاريخ، والتي ما زالت تحتضن أشهر القطع والمعالم الأثرية في العالم. لذلك، تعرض "الشروق" في شهر رمضان الكريم وعلى مدار أيامه، حلقاتها اليومية من سلسلة "قصة أثر"، لتأخذكم معها في رحلة إلى المكان والزمان والعصور المختلفة، وتسرد لكم القصص التاريخية الشيقة وراء القطع والمعالم الأثرية الأبرز في العالم بل والتاريخ. …
لا تقتصر كنوز مصر على التوابيت الذهبية وآثار الفراعنة النادرة أو المعابد والمساجد والكنائس وغيرها من المعالم الأثرية، إنما أيضا ما لديها من ثروة تعكس حضارة الفكر المصري والتي تضمها دار الكتب والوثائق القومية المصرية، التي نشأت بمبادرة من علي باشا مبارك، ناظر ديوان المعارف في عصر الخديو إسماعيل.
فقبل قرن ونصف، لاحظ علي مبارك، أن ثروة مصر من الكتب موزعة على المساجد الكبيرة الجامعة وقصور الأمراء والأثرياء وبيوت العلماء، وانتبه إلى خطورة هذا الوضع الذي ينذر بضياع ثروة مصر الفكرية وخطورة تسرب الكثير من المخطوطات وأوراق البردي إلى مكتبات تركيا وأوروبا والولايات المتحدةالأمريكية، فرأى ضرورة قيام مكتبة عامة لحمايتها من الضياع، فأنشئت "الكتبخانة"، التي تعرف حالياً باسم "دار الكتب والوثائق القومية".
• أول مكتبة وطنية في العالم العربي
وتأسست دار الكتب والوثائق القومية المصرية لتكون أول مكتبة وطنية في العالم العربي، حينما أصدر الخديو إسماعيل الأمر العالي بتأسيسها عام 1870 ميلادية، فكانت حينها تعرف باسم "الكتبخانة الخديوية المصرية"، لتقوم بجمع المخطوطات والكتب النفيسة التي كان قد أوقفها السلاطين والأمراء والعلماء على المساجد والأضرحة والمدارس، وتكون نواة لمكتبة عامة على نمط دور الكتب الوطنية في أوروبا.
فعند نشأتها، اتخذت "الكتبخانة الخديوية المصرية" من الطابق الأرضي بسراي الأمير مصطفى فاضل شقيق الخديو إسماعيل في منطقة درب الجماميز بالقاهرة الخديوية مقرا لها، وكانت حينها منطقة أثرية قديمة يطل منها عراقة التاريخ وعبق زمن يهتم بكل ما هو نادر عريق وثمين.
وعرفت دار الكتب حينها ب"الكتبخانة"، وهي كلمة تركية تعني مكانا لحفظ الكتب والوثائق والتاريخ المسطر، فقد خصصت الدار بمجرد نشأتها، لجمع المخطوطات العريقة حول التاريخ وجماليات المعمار وخاصة المساجد وكل ما يدخل تحت مسمى العلم والأدب والسيرة والتاريخ.
• توسيع "الكتبخانة" بالمتحف الإسلامي
ومع توسيع وزيادة نمو الكتبخانة بمقتنيات الكتب العريقة، وضع الخديو عباس حلمي الثانى حجر أساس مبنى جديد لها، في عام 1899 ميلادية، بُني الطراز المملوكى، ليحاكي بما يضمه من مقتنيات أثرية ما كانت عليه القاهرة القديمة من أصالة وعراقة، وهو دار الآثار العربية المعروفة حاليا باسم "المتحف الإسلامي"، الذي يقع في منطقة ميدان باب الخلق، وقد خصص الطابق الأرضي منه لدار الآثار العربية القديمة والطابق الأول وما فوقه للكتبخانة الخديوية.
فقد انتقلت إليه الدار بحلول عام 1903، قبل أن يتم فتح المبنى للجمهور والزائرين والقراء والباحثين في العام التالي بغرض القراءة والاطلاع والنسخ والاستعارة، وبعدها بعدة عقود وسنوات طويلة قامت السلطات المصرية بفتح مبنى آخر للكتبخانة على كورنيش النيل في منطقة "رملة بولاق"، في عام 1961.
• نقل التبعية وتشكيل مجلس أعلى
ووفق ما ذكر في كتاب "دار الكتب المصرية تاريخها وتطورها" للمؤرخ الدكتور أيمن فؤاد السيد، والصادر عام 1996، فقد نقلت تبعية دار الكتب والوثائق القومية، بعد أن تم تغيير اسمها، إلى وزارة الثقافة، وشُكل لها مجلس أعلى ولكن برئاسة وزير الثقافة وليس المعارف، وهو ما عرف بعد ذلك ب"الإرشاد القومي"، وكان ذلك عام 1966.
وبعدها ب5 سنوات، تم إنشاء الهيئة المصرية العامة للكتاب، وضمت إليها دار الكتب والوثائق القومية ودار التأليف والنشر، إلى أن صدر قرار جمهورى في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، في عام 1993، بإنشاء "الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية".
وأصبحت تلك الهيئة تضم حاليا المبانى والمنشآت الآتية "المبنى التاريخى لدار الكتب بباب الخلق، مبنى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية بكورنيش النيل، مبنى مخازن الهيئة بساحل روض الفرج (المبيضة)، مبانى المكتبات الفرعية موزعة بأرجاء القاهرة الكبرى".
• مكتبة تزخر بالكتب والمجلدات
وضمت الكتبخانة في أول عهدها نحو 20 ألفا من المجلدات والمراجع ومجاميع الخرائط هي كل ما أمكن إنقاذه في هذا الوقت من تراث مصر المخطوط وأوائل المطبوعات، وضم إليها سائر كتب "المكتبة الأهلية القديمة" ومكتبتي وزارتي الأشغال والمعارف العمومية مع ما يرد إليها من الكتب من أي نوع وبأى لغة ومن أي جهة.
• قوانين ولوائح نظمت عمل الكتبخانة
منذ نشأتها وضعت لائحة للكتبخانة، تألفت من 83 مادة، وحددت أقسام الدار واختصاصات العاملين بها، وأوقات فتحها للمترددين عليها، ووضعت الضوابط التي يلتزم بها زوارها.
وكان أول القوانين واللوائح التي نظمت عملها هو قانون "الكتبخانة الخديوية"، واللائحة التنفيذية له وضعها صاحب فكرة الإنشاء، علي مبارك، وقد حدد هذا القانون مقرها وحجم استيعابها، وجعل حق استخدام محتوياتها لمن كان بالغاً سن الرشد ولطلبة المدارس العليا.
• مساهماتها بنمو حركة التأليف والترجمة
كان للتطور الكبير الذي مرت به مصر فى بداية القرن العشرين، وخاصة مع تطوير وتجديد دار الكتب والوثائق القومية، أثره في نمو حركة التأليف والترجمة فى مختلف نواحي المعرفة الإنسانية، فقد شهدت المؤسسة الوطنية عملية تطوير أسهمت في المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، حيث تضمن المشروع تحويل المبنى الى مكتبة متخصصة فى الدراسات الشرقية تضم مخطوطات الدار العربية، التركية، الفارسية ومجموعة البرديات الإسلامية المسكوكات وأوائل المطبوعات، كما تم تخصيص قاعة للعرض المتحفي.