فى عالم المعرفة الكونية يبدو أننا نعيش فى عصر الغيبيات، إذ لا يكاد يخلو خبر هام أو قصة إخبارية مثيرة من التعبير الاحترازى الذى ينسب المعلومة إلى «مصدر رفض الإفصاح عن شخصيته» أو «طلب عدم ذكر أسمه» أو «مصدر موثوق به» أو «مصادر عليمة» أو «وثيقة الصلة بالمفاوضات» أو إلى «توقعات المراقبين». وليس من شك فى أن الزملاء الصحفيين يعانون مشقة الصراع اليومى للحصول على الأخبار الصالحة للنشر من مصادر موثوق بها تقبل مسئولية إسناد الأخبار إليها، فالدرس الأول الذى يتعين على الصحفى المبتدئ أن يتعلمه هو أن قوة الخبر ومصداقيته تكمن فى وضوح مصدره، قبل أن يكون فى مدى إثارته. لكن الثابت أيضا أن مصادر المعلومات، وخصوصا الرسمية والحزبية، تفضل أن تتقمص دور «شاهد ما شافش حاجة» فى التعامل مع المعلومات الحيوية التى تؤثر فى حياة الناس وتوجه مصالحهم، وتصنع مستقبلهم. صحيح أننا نعثر على هذه الصيغة أحيانا فى بعض ما ينشر فى صحف أجنبية، لكنها تنحصر عادة فى التحقيقات الاستقصائية التى تنطوى على معلومات تمس الأمن القومى أو خطط الحرب أو قضايا التجسس، وليس بهدف التجهيل أو اصطناع المعلومات أو الهروب من المسئولية. المشكلة أن انتشار ظاهرة التعتيم الإعلامى، وتنافس بعض الصحف فى الإثارة فى مناخ الحرية النسبية للنشر والرأى، وتزاحم الفضائح وقضايا الفساد ونهب المال العام والسياسات المتعثرة قد انصهرت فى خلطة كيميائية خبيثة تتغذى على التخمينات والتكهنات والمعلومات المدسوسة، وتنشر البلبلة، والقلق وتداول الشائعات والاجتهادات، وتتناول السمعة والأعراض على أنها معلومات موثقة ومؤكدة. هذا الجو هو المسئول عن الشك المتأصل عند المصريين فى نوايا الحكومة وما تعلنه من خطط وإصلاحات ومشروعات وأولويات وتصريحات عن رفع المعاناة عن البسطاء والمطحونين والنهوض بالريف. وهذا بدوره يفسر أزمة الثقة الدائمة القائمة بين الحكومة والشعب، والتى ترجع فى جانب منها إلى أن الشعب يرى أن الحكومة تقدم له صورة وردية مضللة وتخفى عنه الحقيقة فيما يتعلق بعجزها أو فشلها أو سوء تقديرها للأمور وما يؤدى إليه من نتائج وخيمة. وهذه عادة قومية قديمة لها جذورها فى السنوات الأولى من تولى حركة الضباط الأحرار الحكم فى 23 يوليو 1952. الحقيقة أن علاقة المصريين بالدولة والحكومة لاتزال تعيش ثقافة «الإرشاد القومى» الذى كانت تشرف عليه وزارة سيادية بهذا الاسم فى خمسينيات القرن الماضى. ومرجعية هذا الفكر هى أن الشعب المصرى قاصر وغير مؤهل لإدراك مصلحته، وهو عرضة للاختراق والغواية والتضليل، ولذلك يجب حمايته من الأفكار الهدامة والدعاية المغرضة. وكانت مهمة هذا الجهاز السيادى هو فرز وتنقية ما يمكن أن يصل إلى عامة المصريين من معلومات، سواء من الداخل أو مما ينشر فى الخارج. وكان ذلك يتم من خلال نظام الرقابة على مصادر المعلومات وأهمها الصحف، أما الإذاعة والتليفزيون فكانت ملكية خالصة للدولة ولا يجرؤ أى من العاملين فيها على إذاعة ما لم يجزه الرقيب أو مكتب وزير الإعلام، الذى يتلقى تعليماته من مصادر عليا. وكان ضبط النشر يتم بكفاءة عالية لا تقل عن كفاءة أجهزة الرقابة فى أعتى الدول الشيوعية. كانت سياسة العصا كفيلة بالسيطرة على مخارج المعلومات الداخلية أو التشويش على مصادر المعلومات الخارجية التى لا تقع تحت سيطرة الرقيب، مثل هيئة الإذاعة البريطانية أو صوت أمريكا وغيرهما. وقد وصلت كفاءة الرقابة فى بعض الفترات خصوصا فى أعقاب هزيمة 1967 إلى منع نشر الأخبار الخاصة بوصول شحنات من القمح الروسى إلى ميناء الإسكندرية بزعم أن ذلك قد يعطى إسرائيل مؤشرا عن حالة مصر الاقتصادية أو عن تماسك الجبهة الداخلية. كما كان يجرى اعتقال وسجن بعض الصحفيين المصريين العاملين فى وكالات الأنباء الأجنبية بتهم ترويج تقارير إخبارية تسىء للأوضاع الداخلية، بمقاييس فكر الرقيب. ولعل القراء اليوم، وخصوصا جيل الشباب منهم، يستشعرون شيئا من هذا المناخ فيما يطّلعون عليه أو يشاهدونه فى أجهزة الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة. وتغلغل هذا الفكر، تدعمه الدعاية الرسمية الفجة والشعارات الجوفاء وعناوين الصحف الرسمية البرّاقةّ، بالإضافة إلى ترهيب الفكر المعارض طوال أكثر من نصف قرن من حياة الشعب ولا يزال، قد نجح فى تسطيح العقل المصرى وترويضه على الطاعة، وقبول ما يشيعه النظام دون جدل أو مواجهة. وأدى هذا التسطيح إلى تفريغ الساحة السياسية من الرأى الناقد المعارض، وخلق حالة من اللامبالاة اليائسة. وامتد هذا الفكر إلى نظام التعليم، فصنع عقلية التلقين الأصم وصادر التفكير الحر، كما ترعرع كالحشائش الضارة فى المؤسسات التشريعية فأصبحت الأغلبية الآلية المطيعة هى الظاهرة السائدة، مع وجود أقلية معارضة لا تملك إلا إطلاق صيحات الاحتجاج فى التيه السياسى المجدب، وتحكّم فى الانتخابات التشريعية والرئاسية، فضبطها وقضى على كل البدائل وآمال التغيير. جرى كل ذلك ويجرى باسم الشعب المصرى المصفق دائما، الموافق دائما، المطيع دائما، الذى انتقل عقله إلى حنجرته، وانقطعت صلته بذلك الشعب الذى صنع ثورة 1919، الذى قاوم الاستعمار الإنجليزى وحكم السرايا، وصنع نهضة رأسمالية وطنية فى ثلاثينيات القرن الماضى، وكشف فساد الحياة السياسية، وشارك فى حرب فلسطين، وصنعت نخبة منه حركة 23 يوليو. ثقافة التعتيم والمغالطة هى المسئولة عن مناخ الشائعات، فلا أحد يعرف على وجه التحديد هل استقال وزير النقل محمد لطفى منصور، بمعنى أنه قفز من النافذة أم أن أحدا دفعه منها، ولماذا خرج من الوزارة بسبب تحمله مسئولية حادث قطار العيّاط المأساوى، ولم يخرج وزير الثقافة فى حادث حريق قصر الثقافة فى بنى سويف حيث كانت الخسائر فى الأرواح أكبر وأفدح، وما هى حقيقة هروب ممدوح إسماعيل صاحب العبّارة الكارثية «السلام 98» إلى لندن واحتمائه فيها رغم صدور حكم قضائى ضده. ثم تضارب الأقوال حول طلب تسليمه ما بين تصريحات المسئولين المصريين وتصريح السفير البريطانى فى القاهرة بأن حكومة بلاده لم تتلق طلبا لتسليمه، ولماذا لم يتم التحقيق مع الدكتور يوسف والى وزير الزراعة الأسبق فيما عرف بقضية المبيدات المسرطنة، على الرغم من أن حيثيات الحكم على المتهمين فيها طلبت ذلك، وغير ذلك عشرات القضايا والسياسات والأحداث التى لا تظهر فيها الحقيقة ناصعة لا يكتنفها الغموض. سياسة التعتيم على ما يبدو غير معنية بحماية الشعب «القاصر»، وإنما هى خوف دفين من مصارحة هذا الشعب بالحقيقة خشية الفضيحة أو المحاسبة. فى عصر السماوات المفتوحة والاتصالات التى لا يحكمها الرقيب تصبح المعلومات كالماء والهواء لا غنى للناس عنها، وتتنوع مصادرها. وليس من المقبول فى مثل هذا العصر ألا يكون فى مصر قانون يضمن حرية المعلومات والحصول عليها كحق أصيل للشعب. كل ما نعرفه فى هذا الخصوص هو قانون أصدره مجلس الشعب الممثل الشرعى للحكومة عام 1975 ركنه الأساسى هو تجريم نشر الوثائق القومية والتاريخية التى سمّاها وثائق السياسة العليا والأمن القومى إلا بعد مرور خمسين عاما عليها، ما لم يأذن مجلس الوزراء بغير ذلك. وهذا فى مقصده وفلسفته قانون لكبت المعلومات والتحفّظ عليها، لا لإتاحتها للباحثين والمؤرخين أو لمن يطلبها من المهتمّين بشأنها. وبفضل هذا القانون يصبح البحث عن الوثائق التاريخية أو نشرها فيما يتعلق بحرب اليمن مثلا أو هزيمة مصر فى حرب 1967 قبل أعوام 2012 فى حالة اليمن و2017 فى حالة حرب 1967 جريمة يعاقب عليها القانون. أما أسرار حرب الانتصار فى عام 1973 أو التحقيق فى اغتيال الرئيس السادات عام 1981 فلن تطّلع عليها إلا أجيال فى المستقبل غير القريب، بعيدا عن متناول الجيل الذى عاصر تلك الأحداث. وكما هو واضح فإن القانون الذى صدر منذ أكثر من 35 عاما، والذى لن يتذكره أحد، إلا إذا جد ما يدعو الحكومة لاستدعائه، معنى بإخفاء المعلومات تحت ستار كثيف من ضوابط الأمن القومى ومقتضيات السياسة العليا. والأخيرة تعبير مطاط المقصود به هو تفسيره على النحو المطلوب عند الحاجة، شأن العديد من القوانين الأمنية. ما يحتاجه الناس والمهنيون منهم بشكل خاص هو إقرار قانون لحرية المعلومات يعطى الراغبين الحق فى الحصول عليها للأغراض الموضحة فى طلبها، ويحمى بنصوص واضحة، صريحة ومقنعة، أسرار الأمن القومى والعلاقات ذات الطبيعة الحساسة مع دول العالم. ومن شأن مثل هذا القانون إذا تم إعداده وصياغته وإصداره بنية خالصة لا تخفى نوايا تعديل المادة 76 من الدستور أن يعطى الباحثين والمؤرخين المهتمين حقا طال انتظاره، يعود على الشعب بفضيلة المعرفة ويعيد للحكومة شيئا من مصداقيتها المفقودة لدى الشعب.