«لماذا أعلنت الدولة المصرية الحرب على النقاب؟»، بهذه الصيغة الخبيثة المراوغة يطرح أنصار النقاب السؤال، وكأن النقاب وهو وافد ثقافى لا يزيد عمره على العقدين هو من ثوابت وأصول الثقافة المصرية، وكأن مصر غير المنتقبة هى الوافد الدخيل الذى يعتدى على هذا الأصل الثقافى المعبر عن الشخصية المصرية!! لا أريد أن أخوض هنا فى جدل فقهى مع أنصار النقاب، فلديهم مخزون استراتيجى من المصادر الفقهية، بعضها سابق التجهيز، وبعضها الآخر يمكن تفصيله حسب الطلب، والبعض الثالث يمكن استيراده لتلبية الحاجات الطارئة للسوق المحلية، وسد العجز فى أرصدة المخزون الاستراتيجى للمرجعيات الفقهية! فهم رغم إصرارهم العنيد على أن تكون الشريعة الإسلامية هى المصدر الأساسى للتشريع، يرفضون وبإصرار أكثر عنادا أن يكون القرآن الكريم هو المصدر الأساسى للشريعة الإسلامية!! فإن نحن قلنا لهم إن القرآن يقول عن نساء النبى إنهن لسن كأحد من النساء، خرجوا علينا بفتوى تجعل النقاب سنة مؤكدة ما داموا قد عجزوا عن إثبات كونه فرضا دينيا! وإن نحن قلنا إن القرآن يأمر نساء المؤمنين بأن يدنين من جلابيبهن، ولم يقل «يدنين على وجوههن»، خرجوا لنا بفتوى قال بها فقيه من هنا أو متفاقه من هناك، وكأن هذا أو ذاك عائد لتوه بتراب السفر يحمل إلينا من رب السموات العلى ما كنا نجهله من الخبر اليقين! قوافل التجارة الدينية لا تنتهى بضاعتها، وأصحاب البضاعة لا تنتهى حججهم ومناوراتهم، بل هم على أهبة الاستعداد دائما لرفع شعارات لا يؤمنون بها مثل «الحرية الشخصية» للمطالبة بحرية التنقب، لكنهم يسقطون هذه الشعارات، لحساب شعارات «الفطرة السليمة»، حين يتنكرون لحق المرأة فى السفور! ثم هم يخلطون بين السفور والتبرج، وبين التبرج وبين غيره من أنماط السلوك الفاسد التى يستهجنها المجتمع وتعافها الفطرة الإنسانية! وهم على استعداد دائما للاحتكام لصناديق الاقتراع إن هم ضمنوا الأغلبية المجتمعية لنصرة قضيتهم، لكن صناديق الاقتراع نفسها تصبح بدعة لأنها تحكم بإرادة الشعب ولا تحكم بما أنزل الله إن هى جاءت صناديق الاقتراع بما ينقض دعوتهم! الحوار إذن مع هؤلاء هو ثقب أسود يبتلع أى شعاع ضوء طالما لم نستقر على مرجعيات فكرية واضحة تحكم الحوار: هل مرجعيات الحوار هى الدستور؟ ومن هو صاحب الحق فى صياغة مسودة الدستور؟ وما هى آليات إقراره؟ ومن هو صاحب الحق فى تفسير مبادئه؟ وهل الدستور بنص مادته الثانية يكون حاكما لمبادئ الشريعة التى يأخذ بها المشرع أم تكون مادة الشريعة هى الحاكم لمبادئ الدستور؟! هل تكون مرجعية الحوار إذن هى الشريعة؟ وما هى مرجعية الشريعة؟ هل هى النص القرآنى، أم هى نصوص أخرى تخرج من مخابئها أو تأتى بها جسور جوية أو فضائية وقت الحاجة إليها لإنقاذ أحد طرفى الحوار من ورطته وإنفاذ إرادته؟ ومن هو صاحب الحق فى إقرار تاريخية ومنطقية وحجية وتفسير النص سواء كان النص قرآنيا أو غير قرآنى؟ وما هى أصلا طبيعة الدولة التى نتحاور بشأنها؟ هل هى دولة دينية أم هى جمهورية دستورية؟ وماذا لو حدث تنازع بين مبادئ وقيم الجمهورية وبين مبادئ وقيم النصوص الدينية، أو تنازعت مادة المواطنة مع مادة الشريعة عند تفسير النص الدستورى؟ هل يتقدم مبدأ المواطنة وتتقدم مبادئ وقيم النظام الجمهورى على مبدأ الأخذ بالشريعة، أم يتقدم هذا الأخير على مبدأ المواطنة وعلى مبادئ وقيم الجمهورية؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تركناها بلا إجابة منذ بدأت الجماعات المسماة بالإسلامية تزحف على حياتنا من جديد، بعد فترة انقطاع كانت قد استمرت لنحو عقدين من الزمان، بل نحن لم نطرح هذه الأسئلة أصلا، وتركنا الأمور تتطور فى الاتجاه الذى وصلنا إليه باغتيال الرئيس السادات، ثم بمحاولة اغتيال الدولة المصرية نفسها التى تقف اليوم عاجزة تماما عن التصرف، اللهم إلا بإجراءات محض أمنية تزيد الوضع سوءا فوق سوئه، وتكسب أنصار مشروع الدولة المسماة بالدينية صفة الضحية، وتمنحها دون أن تدرى الدولة شرعية وجود انتهى بطرح السؤال المراوغ عن «لماذا تحارب الدولة المصرية النقاب؟»!! أجدنى إذن لا أتحمس لطرح القضية باعتبارها قضية دينية، فهى بالفعل ليست دينية كما يحاول أنصار النقاب فرض طبيعة غير طبيعتها علينا! فسواء أجمع الأئمة على دينية النقاب أو أجمعوا على أنه سنة لا فرض، أو أجمعوا على أنه عادة لا عبادة، فإن النقاب يبقى قضية مؤسسية تهدد منطق وجود واستمرارية مؤسسات الدولة المصرية، الأمر الذى يهدد بنائية ووجود الدولة المصرية ذاتها! وليس فى هذا القول مبالغة إذا ما حددنا بالضبط ماهية المشكلة وأبعاد القضية المثارة حول النقاب، وهى قضية أدارتها وما زالت تديرها أجهزة الدولة إدارة فاشلة أبسط ما يمكن أن توصف به هو أنها عشوائية! تم استدراج أجهزة الدولة بكل أسف لمناظرات فقهية لا يجب أن تدخل فيها الدولة، وإنما يخوض مثل هذه المناظرات علماء ومثقفون ومفكرون وأساتذة جامعات وباحثون يمتلكون أدوات المناظرة العلمية، ويختارون مناظريهم بما يناسب الغرض من المناظرة، ويتحكمون فى مسارها، ولا يورطون الدولة والنظام العام فى تداعياتها، فليس من وظائف أجهزة الأمن أن ترعى ما سمى بالمراجعات الفقهية لجماعات العنف، وكأن الدولة تعترف لهذه الجماعات ضمنيا بمكانة «الفقهاء»، أو كأن هؤلاء الخارجين على القانون أصحاب فكر نعمل فقط على مراجعته! كان أجدى للدولة أن تراجع سياساتها التعليمية، خاصة فى المعاهد الدينية، لا أن تتورط فى مثل هذه «المراجعات الفقهية» التى منحت خصوم الدولة المصرية ولا أقول خصوم نظامها السياسى ندية فكرية لم تعترف بها الدولة حتى لأساتذة جامعاتها! بالمثل، فإنه ليس من وظائف وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية أن تدخل فى جدل فقهى حول رأى الفقهاء الأربعة فى النقاب أو فى غيره، فمثل هذا الإجراء غير المسئول هو بمثابة اعتراف من قبل الدولة بوصاية هؤلاء الأئمة على مقدرات الدولة المصرية! ماذا لو أن فقيها من هؤلاء الذين استدعت الوزارة فقههم لدعم موقفها من النقاب كان له رأى فقهى فى مسألة أخرى لا يتفق مع سياسات الدولة المصرية ومصالحها العليا؟ سؤال أعتقد أن الذين تم استدراجهم لهذه المناظرات الفقهية لم يطرحوه أصلا، لأنهم ببساطة شديدة ليسوا رجال دولة وحكم! أجهزة الدولة لا يجب أن تتصرف بمنطق «المربى الفاضل» الذى يفرض وصايته الدينية بالسلب أو بالإيجاب على ضمائر المواطنين، وإنما تتصرف الدولة الحديثة بمنطق مؤسسة تعى ثقافتها التى تعبر عن منطق وجودها، كما أنها تتعامل مع مواطنيها من خلال مؤسسات تتبع مؤسسة الدولة، لكل منها ثقافة واضحة المعالم أى غير منتقبة تنبع من منطق وجودها المؤسسى، وتعبر عن الدور الذى تقوم به فى بنائية النظام العام للدولة! أما أن تسقط مؤسسات الدولة بهذا الشكل المهين فى يد ثقافات «وافدة» أغارت عليها من خارجها، محاولة تغيير منطق وجود هذه المؤسسات بما يحقق مصالح مشروع دولة موازية تتأسس فى عباءة دولة الحاضر، وأن يكون لهذه المؤسسات التى تمت الإغارة عليها نظام عام مواز يتنازع السيادة الفعلية مع النظام العام الرسمى لمؤسسة الدولة المصرية القائمة، فإن ذلك يكون بمثابة استقالة غير معلنة لنظام الحكم، وتآكل غير معلن لسيادة الدولة، يستوجب كلاهما المساءلة السياسية والوطنية من منظور الأمن القومى المصرى. إن كل نقاب يفرض نفسه على مؤسسة من مؤسسات الدولة من قبل العاملات فيها أو المتعاملات معها، وكل ملصق دعوى يكسو حوائط البنايات العامة للدولة، وكل «مصلية» يتم فرضها باحتلال طرقات المصالح الحكومية، هو عمل لا شأن له بالدين أو بالحقوق الدينية والثقافية للمواطنين، وإنما هو بمثابة «رفع علم» الدولة الدينية المدعاة على مؤسسات الدولة التى تسقط أمام أعيننا مؤسسة وراء أخرى! النقاب ليس مجرد قطعة نسيج تخفى وراءها المرأة وجهها، وإنما هو أدركت المرأة المنتقبة حقيقة الأمر أو لم تدركه «راية» يراد غرسها لإعلان السيادة على مؤسسات الدولة، وما تقوم به دولة الحاضر فى مصر من إجراءات عشوائية فى مواجهة هذه الظاهرة هو امتداد لما أدمنته دولة الحاضر من إجراءات فاشلة اتخذتها طوال أكثر من ثلاثة عقود فى مواجهة الظواهر السلبية ذات الغطاء الدينى! كثير من هذه الظواهر أساء للدين كما كان يتمثله المصريون عبر تاريخهم الطويل، وكثير منها أساء لهيبة الدولة كما تمثلها المصريون منذ نشأة دولتهم وحتى اليوم؛ ولاشك فى أن الأمن القومى المصرى قد صار اليوم مكشوفا أكثر من أى وقت مضى بسبب هذه الإجراءات العشوائية، فقد منحت هذه العشوائية أنصار «النقاب/الراية» أرضا يقفون عليها وهم يوجهون سؤالهم الخبيث عن «لماذا تحارب الدولة المصرية النقاب؟». فى مواجهة إعلان «السيادة» الفعلية لمشروع الدولة الدينية فى مصر، اكتفى نظام الحكم بأدوات السلطة بعد أن أهدر أدوات السيادة، حتى لم نعد نرى «رجال دولة» يقدرون بغير أدوات السلطة على مواجهة «غزو» النقاب لثقافات مؤسسات الدولة المصرية! والأمر فى حقيقته لا يحتاج لإجراءات استثنائية أو عقابية، وإنما هو يحتاج فقط لإجراءات سياسية ومعرفية وإدارية محض «جمهورية»، بعيدا عن الإجراءات الأمنية، فهى ليست مسئولية الأمن؛ وإنما هى مسئولية آخرين تسبب ضعفهم وعدم كفاءتهم فى وصولنا إلى حالة الأزمة، بل وإلى حالة الخطر، فى كثير من المؤسسات، وأبرزها المؤسسة المعرفية بكل مكوناتها، فكثير ممن حصلوا دون استحقاق على لقب «رجل دولة»، ناهيك عن «كبار» رجال الدولة، لا يملكون القدرة على إدارة شئون دولة، ولا هم يملكون أصلا مقومات «رجل الدولة»! وإنما هم فقط إفراز نظام حكم لم يعد يرى لمصر من مستقبل غير مستقبل أولئك الذين يتوهمون أنهم «رجال دولة»، أو هم يريدون إيهامنا بأنهم جديرون بهذه الصفة، أو بما هو أرفع منها!