ثمة حديث عن موسم عودة الهاربين من مصر، والمقصود مجموعة رجال الأعمال الذين هربوا من البلد إما بفلوس اقترضوها من البنوك لتمويل تعاملاتهم، ثم عجزوا عن سدادها، أو بفلوس نهبوها وأخذوها معهم إلى الخارج، وهؤلاء طبقا لما نشرته جريدة الأهرام فى 5/9 الحالى عددهم 74 شخصا استولوا على ما يقرب من 240 مليار جنيه، أى ما يعادل أربعة مليارات ونصف المليار دولار. هذه العودة بدأت بالفعل، حين خرجت علينا الصحف ذات صباح بخبر وصول واحدة من هذه المجموعة التى عرفت باسم المرأة الحديدية، فى الوقت ذاته توالى نشر أخبار عن تسويات جارية مع الآخرين. وبدا التسامح واضحا معهم حين لاحظنا أنهم أصبحوا يظهرون فى وسائل الإعلام ويطلون علينا عبر شاشات التليفزيون الرسمى متحدثين عن وفائهم بما عليهم وترتيبات عودتهم، فيما بدا أنه تحسين لصورتهم وتمهيد لعودتهم، بعد الصفح عما فات ومحاولة التوصل إلى حلول وسط تنقذ ما يمكن إنقاذه من الحقوق التى ضاعت. خلال الأسابيع الأخيرة التى لاحت فيها بوادر التسامح والمصالحة. تحول أولئك الهاربون من «مطاريد» اتهموا باستغلال النفوذ ونهب أموال الشعب إلى رجال أعمال «اضطروا» إلى الهرب ثم ندموا على ما فعلوا وقد حان الوقت لعودتهم إلى الوطن الأم، بعد سداد ما يمكن سداده من الأموال التى اقترضوها (لم يعد أحد يتحدث عن أنهم نهبوها)، ثم إعادة محاكمتهم مرة أخرى. فى توضيح ما جرى، ذكر رئيس مجلس إدارة الأهرام الدكتور عبدالمنعم سعيد (فى عدد 5/9) أن التعامل مع ملف الهاربين كان أمامه نهجان، الأول يحكِّم القانون وحده ويستخدم الأساليب الأمنية فى الملاحقة، التى كان منها الاتفاق مع شركات خاصة لمتابعتهم فى الخارج وإبلاغ الانتربول ووحدة غسل الأموال بالأمم المتحدة بأسمائهم. النهج الثانى تبنى موقف أكثر رشدا، فانطلق من محاولة توفيق أوضاعهم وجدولة ديونهم تمهيدا لتمكينهم من بدء حياة جديدة وصفحة جديدة. وذهب الدكتور سعيد فى تفهمه لوضعهم إلى القول بأن أصل القضية يكمن فى الخلل الجسيم الذى حل بالبنيان الاقتصادى للبلاد، مما أفرز تلك الصور من الانحراف. رغم أن الكاتب تحدث عن نهجين فى التعامل مع الموضوع، فإن الممارسة العملية دلت على أن النهج الثانى هو الذى استقر العمل به، بما يعنى أن منطق التفاهم هو الذى ساد، بما استصحبه ذلك من تصالح وتسامح نسبيين، إن شئت فقل إن عنصر الملاءمة السياسية تدخل، وحسم الأمر فى نهاية المطاف. أول ما خطر لى حين تابعت فصول المشهد كان السؤال التالى: لماذا تغلب منطق التسامح والتصالح مع الذين نهبوا أموال الناس وهربوا إلى الخارج، فى حين يغيب هذا المنطق تماما فى التعامل مع المخالفين السياسيين؟ لماذا امتدت يد الصفح للأولين فى حين لا يشهر سوى الهراوة والسوط فى وجوه الآخرين؟ وهذا التساؤل يجرى على لسانى، يتراءى لى شريط طويل من المناضلين والمخالفين السياسيين الذين لايزالون يقبعون فى السجون، وترفض الأجهزة الأمنية إطلاق سراحهم، رغم أن منهم من صدرت بحقهم عدة أحكام بالبراءة والإفراج الفورى. تذكرت مجدى حسين وسعد أبوفجر وشباب المدونين غير العشرات من الذين قدموا للمحاكمات العسكرية وتمت معاقبتهم ثم رفض الأمن إطلاق سراحهم، وفى المقدمة منهم عبود الزمر الذى قضى 25 عاما فى السجن وأتم التأبيدة، ولا يراد له أن يرى النور. تذكرت أيضا الثلاثين ألف شخص من عناصر الإخوان الذين مروا بالسجون خلال السنوات العشر الأخيرة (حسب تصريح الأستاذ عاكف فى حفل إفطار الجماعة)، ولاتزال أفواجهم تحشر فى السجون كل يوم تقريبا. هؤلاء جميعا لم يفكر أحد فى التعامل معهم لا بمنطق الفهم أو السياسة ولا بمنطق الإعذار، وانما خوطبوا بلغة الهراوة والسوط وحدها، وهو ما يسوغ لنا أن نكرر السؤال: لماذا كان التفاهم محتملا ومقبولا مع الذين نهبوا أموال البلد، فى حين ظل الخصام والقمع من نصيب الذين اختلفوا مع النظام؟ الإجابة الحاضرة فى ذهنى الآن هى انه فى بلادنا يظل التسامح ممكنا مع الذين اعتدوا على حق المجتمع، إذ تلك مسألة هيِّنة فيها نظر، أما الاختلاف السياسى مع النظام فهو الخطيئة الكبرى التى لا تغتفر.