كثرة الفضائيات والبرامج الدينية جعلت عامة الناس تستمع لمصطلحات من الفقهاء وترددها دون علم أو دراية، ومن هذه المصطلحات «الضرورات تبيح المحظورات»، فصار كل ميل للتيسير غير المبرر، يساق بحجة «الضرورات» فما هى إذن الضرورات حتى نضع الأمور فى نصابها؟ العلامة الدكتور يوسف القرضاوى رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين يقول إن القاعدة الأساسية التى أجمعت عليها كل القواعد الفقهية هى أن (المشقة تجلب التيسير)، وبناء على هذه القاعدة شرعت الرخص والتخفيفات الكثيرة فى الفرائض الإسلامية، للمرضى، والمسافرين، وأصحاب الأعذار المختلفة وجاء فى الحديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته). وتقررت القاعدة الشرعية الشهيرة: (الضرورات تبيح المحظورات) وما يكملها من قواعد متفرعة عليها مثل (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها)، (الحاجة تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت، أو عامة)، والأصل فى هذا ما جاء فى كتاب الله تعالى بعد ذكر الأطعمة المحرمة حيث استثنى حال الضرورة فى أربعة مواضع من القرآن الكريم. ومن حالات الضرورة التى تجيز للإنسان ما لا يجوز فى الحالات المعتادة: حالة الإكراه، ولو كان ذلك الأمر هو الكفر، الذى هو أكبر الجرائم فى نظر الإسلام، فنجد القرآن الكريم يستثنى حالة الإكراه فيقول: (إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأولئك هم الكاذبون. مَن كفر بالله من بعد إيمانه، إلا مَن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل/ 106. وحالة الضعف والعجز التى تلم بالفرد المسلم، أو الجماعة المسلمة، فتجعل المسلم يتخذ غير المسلمين أولياء، يلقى إليهم بالمودة، ويظهر لهم الولاء والنصرة، لا إعجابا بدينهم ولا خيانة لدينه وأمته، ولكن خشية على نفسه من سطوتهم، واتقاء شرهم. وفى الحرب يجوز للأمة ما لا يجوز لها فى الظروف العادية، كما فعل النبى (ص) وأصحابه فى حصار يهود بنى النضير، بل إن الفقهاء قالوا: لو أن الأعداء تترسوا ببعض المسلمين، كأن كانوا أسرى عندهم أو نحو ذلك، وجعلوهم فى مواجهة الجيش المسلم، ليتقوا بهم، وكان فى ترك هؤلاء الكفار خطر يهدد كيان الجماعة المسلمة، جاز للمسلمين أن يرموا هؤلاء الغزاة وإن قتلوا المسلمين الذين معهم، مع أنهم معصومو الدم لا ذنب لهم، ولكن ضرورة الدفاع عن الأمة كلها اقتضت التضحية بهؤلاء الأفراد خشية استئصال الاسلام واستعلاء الكفر، وأجر هؤلاء الأفراد على الله. ويضيف القرضاوى «نحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلى على الجزئى، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطدام الكفار أهم فى مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع». ومثل ذلك إذا اقتضت ظروف الحرب فرض ضرائب على القادرين وأهل اليسار لتمويل الجهاد، وإمداد الجيوش، وإعداد الحصون، فإن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان كثيرا منهم فى الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق فى المال غير الزكاة. ومثل ذلك فك أسرى المسلمين، وتخليصهم من ذل أسر الكفار، مهما كلف ذلك من الأموال، فقال الإمام مالك: يجب على جميع المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم.. وهذه هى بعض الضرورات التى أسست لهل الشريعة الاسلامية.