كما بدا واضحا، لم يؤد مقتل بيت الله محسود زعيم حركة طالبان فى باكستان فى أوائل شهر أغسطس إلى حل جميع مشكلات البلد. فما زال الرئيس الباكستانى يفتقر تماما إلى التأييد الشعبى. ولعل ما يبعث على الاستغراب أنه بالرغم من أن الرئيس قد انتخب بطريقة مشروعة، وأن أحدا لا ينازعه فى زعامة حزبه، فإنه يظل أقل الزعماء شعبية منذ زمن طويل. وما زالت النخبة الإقطاعية والعسكرية تخوض مواجهة مع ما أصبح اليوم بمثابة نمو عضوى هائل للطبقة الوسطى فى البلاد، حيت يتواصل الهجوم على وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدنى، وهما يمثلان وسيلة هذه الطبقة لتأكيد ذاتها. فما زال من فريق الكريكيت الباكستانى لا يمكن التنبؤ بمستواه إلى حد كبير، وما زال الموسيقيون يحظون بحقوق محدودة فيما يتعلق ببث أعمالهم، وما زالت المرأة الباكستانية الأم والابنة والزوجة والأخت تُعامل بالطريقة نفسها، التى كانت تُعامل بها منذ فجر التاريخ. وما زال 43 مليون طفل بين الخامسة والتاسعة عشرة محرومين من الذهاب إلى المدرسة. وما زال الفساد وقصر النظر ومؤامرات المضاربين فى سوق رأس المال تقوض بطريقة معيبة حيوية الاقتصاد الباكستانى. فما هو أثر موت بيت الله محسود على باكستان؟ تعد حياة رجل أو موته أمرا صغيرا للغاية بالنسبة للأمم، ومنها باكستان. ويمثل مقتل محسود دفعة كبرى للحملة العسكرية الرامية إلى استئصال الإرهاب منها. غير أن الدرجة التى ستصبح بها باكستان تستحق هذا الاسم والتاريخ والشعب النبيل الصامد لا تتوقف على حياة أو موت الأفراد الضالعين فى الإرهاب أو المنظمات الإرهابية. ذلك أن بلدا يبلغ تعداد سكانه نحو 180 مليونا لا يمكن أن تسحقه شهوة رجل للدم، حتى لو كان هذا الرجل هو بيت الله محسود. كما أن هذا البلد لن يستطيع أن يحقق إمكاناته المحتملة لمجرد أن هذا الرجل قد مات. فقد كان مقتل محسود بمثابة انتصار صغير انتفت أهميته بمجرد حدوثه. وما زالت معظم التحديات الأساسية والعصيبة، التى تواجه باكستان على حالها بعد موته. وتواجه باكستان عددا من التحديات القاسية، منها علاقة هذا البلد بالإسلام. فعلى عكس الحال فى مصر، وحتى فى تركيا، فإن باكستان لا تشهد حالة إحياء ذى شأن للطبقة الوسطى المسلمة، بالرغم من النمو الكبير للطبقة الوسطى الحضرية خلال العقد الماضى. ولا شك فى أن الرموز الإسلامية والخطاب الودى تجاه المسلمين يغمران الإذاعة والتليفزيون والصحف. ومع ذلك فإن أيا من عناصر صحوة ما بعد الحداثة الإسلامية المهيمنة على الخطابات الإسلامية الجديدة غير موجود فى باكستان. ونجد فى بعض الحالات أنه فى الوقت، الذى تتطور فيه الطبقة الوسطى الباكستانية، يتضح شيئا فشيئا أن الرمزية الإسلامية ليست جزءا من هذه العملية. فعلى سبيل المثال أثارت حركة الطبقة الوسطى الناجحة من أجل استعادة سلطة القضاء انتباه آلاف الملتحين. لكن أساس الحركة المتمثل فى التعطش إلى سيادة حكم القانون الذى يجب أن يٌطبق على الجميع كان تقريبا علمانيا بشكل قاطع. وبفعل ظهور هذا الخطاب غير الدينى للطبقة الحضرية، فإن مستخدمى ومسيئى استخدام الرمزية الإسلامية لا يواجهون تحديات كبرى. ذلك أن إسلام الغضب وهو مفهوم مغلوط فى أساسه يسيطر على المساجد ومكبرات الصوت فى باكستان. لكن إسلام الوعى يختبئ فى المكتبات، بل يمكن القول إنه غير موجود فى مكتبات المناطق الأقل حضرية فى باكستان. ويمثل ذلك إشكالية فى الحالة الباكستانية، لأن هذا البلد يُعد جزءا من عالم ظل الخطاب الدينى التقليدى به دائما متمحورا حول الوعى. وفى الوقت الذى ربما انحصرت فيه الصوفية وهى تعد تعبيرا مشروعا عن الوعى بواسطة موسيقيى ومثقفى البوب، إلا أنها كان لها دائما جذور عميقة فى التربة الباكستانية. ولعل ما يثير إشكالية أكبر هو أن الجدل بشأن الإسلام من حيث دوره فى الحياة العامة فى المجتمعات ذات الأغلبية السكانية الإسلامية والوعى الإسلامى ما بعد الحداثى قد تجاوز باكستان كلية تقريبا. وإذا لم يظهر تحد حقيقى فى المدن للخطاب الإسلامى الغاضب والقديم والتقليدى المنعزل عن الماضى الباكستانى والحاضر العالمى فسوف يمثل ذلك خطرا حقيقيا على باكستان. ويعد هذا الخطر أقوى من أى إرهاب فردى. إذ ربما تكون باكستان قد تخلصت من بيت الله محسود، لكن أرواح الظلام الكامنة فى الهوية والدولة والمجتمع الباكستانى ما زالت حية. ولن تستطيع ضربات الطائرات الأمريكية بدون تيار أن تقضى على هذه الأرواح.