وقف الطبيب مارك والير بمعطفه الأبيض، مديراً ظهره لطفل صغير في التاسعة من عمره مرتسمة على وجه ملامح الخوف الممزوجة بالألم، ينظر في تقرير طبي بتمعن، قبل أن يلتفت في ثواني مرت على الطفل الصغير كأنها الدهر كله ليقول "لسنا مضطرين لقطع اصبعك يا ستيفي". لم يكن والير يدرك أنه بتلك الجملة، أنقذ ليفربول والكرة الإنجليزية من خسارة قلبها النابض، فهو يتعامل مع الطفل ستيفن جيرارد على أنه حالة يشرف على علاجها، بعد أن جائه بإصبع شبه مقطوع وتعليمات طبيب قبله بضرورة استئصاله بالكامل، وليس واحد من أعظم لاعبي كرة القدم في المستقبل. مثله مثل أي طفل كان جيرارد يلعب الكرة في حديقة منزل عائلته مع أصدقائه، بعد عام من انضمامه لناشئي ليفربول، حينما كان يركل الكرة، ركل بالخطأ "شوكة تهذيب العشب" لتسبب له جرح بالغ في أصبع قدمه اليمنى الكبير، تلك القدم التي أذاقت المنافسين ويلات تسديدات صاروخية. ومنذ تلك الواقعة وحتى عامين، تعامل جيرارد مع إصابته البالغة على أنها عائق ينبغي عليه تخطيه لبلوغ حلمه الذي يتمناه منذ أن كان في الثامنة من عمره وهو أن يكون "قائد ليفربول". ظل ستيفي يتدرب منفذا لتعليمات طبيبه والير ومدربيه في ليفربول، حتى تعافى تماما من أثار الإصابة، ما جعل كل من تعامل معه يصفه بالمحارب. تلك الروح القتالية والرجولة الزائدة التي جعلت الملاكم الشهير ريكي هاتون يقول عن :"كيف لا تحب جيرارد؟ ليس لدي شك بأنه إذا أصبح ملاكماً سيكون ملاكماً جيداً". إيمان فرنسي البداية الاحترافية الحقيقة كانت في الخامس من نوفمبر 1997، بتوقيع مسؤولي ليفربول عقد احترافي مع الشاب جيرارد مقابل 700 جنيه إسترليني إسبوعيا. ورغم أن جيرارد كان يعاني من مشاكل طبية في ظهره تؤثر على عضلات فخذه الخلفية، رأى جيرار أولييه مدرب الفريق الأول أن فريقه في حاجة لتلك النوعية المقاتلة من اللاعبين. ويقول أولييه عن جيرارد "فور أن رأيته، شعرت بأنه يمتلك شيئا مميزا، قائد سريع ومهاري وقوي وحماسه لا حدود له". أولييه اهتم بنفسه بحالة جيرارد الطبية وأرسله لطبيب فرنسي أكد أن حالة ستيفي سببها نمو جسده بشكل زائد عن الطبيعي في وقت قصير، ليخضع اللاعب في العام الثاني من مسيرته الاحترافية لثلاث جراحات في الظهر. وخرجت الصحف الإنجليزية لتؤكد أن لاعب ليفربول الجديد لن يمكنه خوض مباراتين كل أسبوع بسبب حالته الصحية، إلا أن مدربه الفرنسي كان يؤمن بأن الشخص الذي لم يمنعه إصبع شبه مقطوع من العودة لكرة القدم، يمكنه التغلب على مجرد بعض الألام العضلية. وهو الإيمان الذي أثبت ستيفن جيرارد صدقه، بخوض 50 مباراة فور التعافي من الإصابة مسجلا عشرة أهداف ومساهما في فوز الريدز بثلاثية كأس الاتحاد الإنجليزي وكأس إنجلترا وكأس الاتحاد الأوروبي. التحول لأيقونة تعرض ليفربول لموسم صعب (2001 -2002) بسبب مرض المدرب جيرارد أولييه، المدرب الفرنسي يعاني من أزمة صحية قوية، جعلته يضطر للخضوع إلى جراحة صعبة في القلب، ليظن الجميع أن الريدز سينهارون. ولكن نجح جيرارد في استغلال صفاته القيادية داخل الملعب وبمعاونة زميله الماهر مايكل أوين، في الحفاظ على الفريق، وقيادته للفوز بشكل وصفته الصحف الإنجليزية وقتها بال"ملهم". وأنهى ليفربول الموسم وصيفا لجدول ترتيب الدوري الإنجليزي برصيد من النقاط لم يحققه الفريق الأحمر منذ أوائل التسعينات. ليؤكد أولييه بعدها أن جيرارد هو "اللاعب الأهم في مسيرتي كمدرب". وكانت تلك هي اللحظة الفارقة في صناعة أسطورة جيرارد لدى جماهير الميرسيسايد، العاشقة لفريقها والتي تتغنى دائما بإنها لن تتركه "يسير وحده أبدا". التطور لأسطورة "البطولات تصنع الأبطال ، ولكن التضحيات هي من تصنع الأساطير." – الشاعر الإغريقي الشهير هوميروس مؤلف ملحمتي الإلياذة والأوديسا. ضمنت البطولات والأهداف والمواقف الرجولية لجيرارد أن يكون بطلا وأيقونة لدى جماهير فريقه، ولكن لكي تصبح أسطورة عليك التضحية. وهو الأمر الذي لم يتوانى جيرارد عن فعله ليتحول إلى أسطورة ليفربول الحية، فرغم إعلانه الرحيل عن الأنفيلد منذ أيام، لا ينكر تضحيات جيرارد من أجل القميص الأحمر سوى الجاحدين. عقب التتويج بدوري أبطال أوروبا عام 2005 بالفوز على ميلان في موقعة أسطنبول الشهيرة، سعى ريال مدريد بقوة لضم جيرارد بناء على توصيات النجم الفرنسي زين الدين زيدان الذي طلب من مدربه ورئيس ناديه ضم قلب ليفربول وفقا لما أكده بنفسه. ويرفض جيرارد الانتقال لعملاق إسبانيا وأن يكون جزء من الجلاكتيكوس الملكي، ليدفع زيزو نفسه للإشادة بولائه. ويؤكد جيرارد إنه لم يشعر بأي إغراء، فليفربول مازال كبير وأن هناك أشياء أهم بداخله أهم من الألقاب وأهم من الانتقال لأندية يسهل فيها التتويج. وتتوالى العروض من عمالقة أوروبا، مانشستر يونايتد بقيادة أليكس فيرجسون، ريال مدريد مجددا بقيادة جوزيه مورينيو، وإنتر ميلان الإيطالي بقيادة روبرتو مانشيني وحتى بايرن ميونيخ مع جوسيب جوارديولا، ورد فعل جيرارد الثابت هو التضحية والرفض، وكأنه يعلم جيدا مقولة هوميروس ويقرر تطبيقها، ليصبح أسطورة ليفربول. النهاية "الرحيل عن ليفربول هو القرار الأصعب الذي اتخذته في حياتي، اتمنى العودة يوما ما لخدمة النادي مجددا"، حتى وهو يعلن قرار رحيله عن النادي الذي دخله في عام 1988، لم يمنع جيرارد نفسه من التفكير في خدمته. حتى قرار الرحيل جاء حينما وجد جيرارد نفسه سيتحول للاعب عادي داخل الفريق لا يستطيع خدمته على الوجه الأكمل، وهو الأمر الذي ظهر في تصريحه الأخير "اللحظة الفارقة كانت عندما أجلسني المدرب على مقاعد البدلاء مؤكدا لي أنه مصلحتي ومصلحة الفريق أن تكون مشاركاتي محدودة". ومازال جيرارد مصرا على أنه "من الأن وحتى أخر ركلة مني للكرة في الموسم الحالي، سأخلص للفريق مقدما كل ما بوسعي لتحقيق الفوز". حتى آخر مباراة له سيصر القلب النابض على أداء عمله وضخ الدماء في الجسد، سيصر على الخفقان بقوة وإمداد الجسد الأحمر بالطاقة اللازمة للتحرك نحو الأمام. ولإن القلب لا يتوقف عن الخفقان من أجل الراحة ولو لثواني إلا بعد صعود الروح لبارئها، ولإن جسد كيان ليفربول لن يموت حتى تقوم الساعة ، فضل قلب ليفربول النابض ترك موقعه لقلب أخر يقوم بمهامه على التوقف عن الخفقان ولو للحظات معدودة على مقاعد البدلاء. للتواصل مع ضياء سليمان