الأديبة سميحة المناسترلى – مصر شموس نيوز – خاص استيقظ نديم من غفوته يكاد ان يفتك برأسه صداع رهيب ،لم يشعر به منذ فترة طويلة ،إلتفت حوله، فإذا بغمامة بيضاء متداخلة تكسو كل ما يحيط بمرسمه الواسع .. أصوات مختلفة مبهمة تملئ أذنيه ، طنين يُزيد من آلام تنتابه تمسك أعلى الرأس إلى خلف رقبته ،أغلق عيناه ورجع برأسه للوراء ،وأطلق العنان لخياله .. مر شريط حياته أمامه ،و كأنه عاد ليعيش بداخله مرة أخرى ،رأى نفسه طفل صغيرعاشق للرسم ، يرسم على أى شيء وبأى شيء،يلطخ أثاث المنزل بالأقلام الملونة والرصاصية ، فلم يسلم جدار بالبيت من ” شخبطته “،بصماته رسوماته بكل مكان ، تعلن عن فنه (غير المفهوم ) لمن حوله، إلا شخص واحد، هو( والده ) الوحيد القادرعلى ترجمة خطوطه ؛فهو يمتلك نفس طاقته الإبداعية بالرسم ،والتي كُبتت نتيجة سخرية وإحباط الآخرين له منذ الصغر، إلى أن رأى طفله الجميل الوديع يتوارث موهبته بهذا العمر المبكر .. جاء “لنديم”وجه أبيه كطيف بعيد يخصه بنظرات تفيض بالحب ،والعاطفة الجياشة وتحتويه وأمه بكل الرعايا و الحنو، ، هما بالنسبة له كعصفوران يتناجيان،حتى بوقت الغضب كانت أمه تذرف بعض الدموع فى دعة وهدوء،فلا يمضى وقت طويل حتى يتصالحا بود وتفاهم قلما وجد . شريط من الذكريات الخاطفة يمر امام عينيه لحياة تكاد تكون مثالية فى تركيبتها ، ؛حرصهما الشديد على أن يوفرا له الحياة المستقرة الملائمة للمضى في دراسته وتنمية موهبته فى الرسم ،اهتمام والده وتشجيعه بتوفيركل ما يلزمه من أدوات للرسم ، ومصاحبته له كل عطلة لحضور المعارض المختلفة، والتعرف على اللوحات ،وشرح التفاصيل الدقيقة بكل لوحة ،أو بورتريه ،جاءه صوت والده من بعيد موضحاً له أنواع مدارس الرسم المختلفة ،وأشهر فنانيها : شايف يا “نديم” مشيرا إلى ” لوحة فان جوخ الشهيرة “لفازة الورد زهرة الخشخاش ” عارف أيه سبب شهرة اللوحة دى ؟ !! موضحاً لابنه : تدرج ألوانها، التمكن من عمل الإضاءة المناسبة لها ،كانت من الأسباب التى جعلتها من أروع اللوحات على الإطلاق إلى عصرنا هذا .. نفس الشئ بالنسبة للوحة الموناليزا للفنان الإيطالى ” ليونارد دافنشى ” التي اشتهرت بإبتسامتها الغامضة ،ونظرة عينيها اللامعة الملاحقة لعينيك أينما ذهبت ،نفس الشئ لوحة الفنان الهولندى يوهانس فيرمير ” ذات القرط ” .. ! الأب ناصحاً ابنه بهمس : يجب أن يذوب احساسك ويمتزج بألوانك ،والإضاءة المناسبة لدفئ المناخ داخل اللوحة ،تجعل احساسك هو من يقود ريشتك و ليس عقلك .. هكذا تعطي للوحتك نبض الحياة الذى يقف أمامه الجمهور حائراً فيما تمتلكه من سر وغموض لنجاح لوحاتك . .. ذرف “نديم بعض الدموع من عينيه بلا وعي ،حين تذكر إصطحاب والده له لأكبر الكنائس والكاتدرائيات الشهيرة بأروبا،ليرى روعة رسومات الفنان التاريخى مايكل أنجلو بإيطاليا ، إبداعاته فى رسم سقف كنيسة ” سيستيين شابل ” بدعوة من البابا يوليوس الثانى،كما بُهر” نديم ” بفن الإبداع بنحت التماثيل المختلفة من الرخام والأحجاروكم تكلف الأب من مصاريف لينمي معرفته وقدراته الفنية ، ثم عند عودتهم كانت الزيارة الأخيرة لكل ما تضمنته مدرسة الفنان (صلاح طاهر) ،بإبداعاته المتعددة من تماثيل ورسومات وغيره . اختلف الرأي بين المعارف والأقارب على أسلوب تعامل والداى معي ،مستنكرين اننا نعيش حياة منغلقة على انفسنا نوعا ما ( هكذا همس “نديم” لنفسه ) : منهم من يحسدوننا على تماسكنا واستقرار معيشتنا ، والآخرون يرون ان هناك مغالاة في اعطائي مثل هذا الاهتمام ،ورأوا أنه لابد أن أُترك لأعيش فترة طفولة ومراهقة عادية . يزداد الطنين بداخل رأس “نديم” .. ممسكاً بها بكلتا يديه ،يرى سيارة والده وهى تنقلب بهم أثناء عودتهم من المصيف في حادث مروع فقد فيه والدايه وهو مازال في السادسة عشر ربيعاً . تذكر فترة علاجه الطويلة بالمستشفى نتيجة لكسور خطيرة ،وارتجاج بسيط أدى إلى إصابته بغيبوبة لبعض الوقت ،وعندما تعافى قليلا أبلغاه حقيقة وفاة والديه حدثت له انتكاسة وانهيار،كرد فعل قوي سبب له نوعاً من الانفصام . ابتسم ابتسامة باهتة بإعياء متذكراً عمه الحنون، واحتوائه له و تخصيص غرفة بحديقته كمرسم خاص له، ليقوم بمزاولة الرسم فيها على راحته ،وبدأ بالفعل يمارس هوايته فى الرسم بصورة لفتت أنظار الجميع ،فقد كانت أول صورة يقوم برسمها لوالده ” بورتريه ” جسَّد فيه وجه والده بقسماته ،ونظرة عينيه بنفس اللمعة و الحيوية ،تكاد الملامح أن تنطق من روعة ريشته ،فى توزيع مناطق الظل والإضاءة ، كما رسم والدته ، كملاك يكاد يظهر من بين طيات السحاب ،بعيونها الطيبة الحنون، مما أثار دهشة الجميع على قدرة “نديم ” كعاشق لريشته.. اتجه “نديم ” برأسه إلى مروحة السقف ، ماضياً في ذكرياته التي أخذته لأيام دراسته بالفنون الجميلة .. التي كان يدعمها بسفريات دراسية في الأجازات الصيفية ،بتشجيع من عمه، الذى من ناحية أخرى فشل في إخراجه من شبه العزلة التى سجن نفسه داخلها منذ فقدانه لوالديه. جاء على خاطره بعض المواقف والعلاقات مع بعض زميلاته مع (دوران ريشات المروحة بالسقف ) وكان الإنطباع واحد على الجميع ،لا نستطيع القول إنه تأثر عاطفياً بإحداهن حتى أتى الوقت الذى حدث هذا بلا أية مقدمات .. مع تغيرزاوية نظره إلى لون الجدار البنفسجى الهادى ، تذكر يوم شاهد معشوقته الوحيدة ،إنه يقف بكليته بركن ،يقوم بقراءة ملحوظات على كتابه ،وقتما سمع نوعا من اللغط يحدث حوله ،رفع رأسه ،وجد أحد الزملاء ، يفتعل مشكلة ليلفت نظر فتاة أساء إليها ،تقف فى طابور تذاكر الحفل التابع للكلية، لكن الفتاة اكتفت بأن غادرت مكانها ، وانسحبت مغادرة على استحياء مسرعة الخطى ، عندها لمح الدموع تترقرق فى عينيها وسط اندهاش الجميع، سمع زميلاتها ينادين عليها باسمها ” فاتن .. فاتن ” لم تجب ،أسرعت مستقلة سيارة جميلة صغيرة تتناسب وجمالها الرقيق، تاركة كثير من التساؤلات داخل رأس “نديم “الذى بهرته رقتها وأدبها الجم .. فهى مخلوق رقيق غير بنات هذا العصر .. وأخذ يتساءل مَنْ تكون تلك المخلوقة التي شدت انتباهه بهذا الشكل المفاجئ ؟ !! اعتدل قليلاً بفراشه وتذكر تردده قبل أن يبدأ السؤال عنها، تشجع وتابعها عن بُعد فوجد فيها ما جذبه لها بشدة ؛فهى إنسانة هادئة الطباع تمتلئ عينيها بالعطاء والحنان ومعروفة بين الجميع بأدبها الجم ، وهى ابنة شخصية دبلوماسية معروفة ومحبوبة من أسرة محترمة كانت تذكره (بأمه التي حرم من حنانها بوفاتها المفاجئ).. حاول التقرب منها أكثر من مرة ،ولكنها كانت ترد ببساطة وأدب واضعة حدوداً للحديث معه ،إلى أن كانت المناسبة لعرض بعض أعمال الدارسين ،وتذكر انبهارها بلوحاته عندما توجهت إليه متسائلة :أنت بتدرس ليه ..؟!! لوحاتك تُدّرس يا نديم ريشتك فيها غموض وجذابة جدأً اسمحلى أحييك , برافو فعلاً !! ابتهج نديم جداً عند تذكره لهذه اللحظات التي شعر فيها بروحه تدب فيها الحياة ،وكأنها تحيا بعد فترة موت لسنوات طويلة ،وتذكر عرضه لها بأن يقوم برسم صورة لها هدية منه، ففرحت ” فاتن ” ،وافقت على الفور ،متسائلة إذا كان يُفضل أن تجلس أمامه أم أن تعطيه صورة منها .. فأجابها بأن الطبيعة هى التى تعطى الانطباع الأقرب واقعية للوحة ،واتفقا على مواعيد معينة يتقابلان فيها عند عمه فى مرسمه . توطدت معرفتهما ،و فى كل جلسة يزداد تعلقه بها ، تحول الإعجاب إلى حب جارف فى وقت قصيرمن طرف واحد، وكان يبدع فى استخدام ريشته بصورة أبهرت الجميع وهى مندهشة من إمكانياته الإبداعية ، وشعرت بالإعجاب به كفنان ومبدع متمكن له قدرات فنية تفوق مجال الدراسة .. بدأ يعاوده الطنين و الصداع بصورة تدريجية مرة أخرى عندما بدأ يسترجع مصارحتها له بإنها مرتبطة بأبنة خالتها .. يومها صدم ولكنه تقبل الأمر ووعدها بإستكمال صورتها لتكون هدية منه لعرسها ،وقام بتوصيلها لسيارتها وذهب إلى المرسم ، تذكر أن حالته النفسية بدأت تتدهور، وينعكس هذا الشعور على تصرفاته اليومية بصورة أو بأخرى ، بدأ يشعر بها ويلاحظها كل مَنْ حوله . بدأ يستعيد بذاكرته ذلك الحدث الغريب معه .. فجرأحد الأيام استيقظ من نومه فوجد جزءاً ممحواً من اللوحة .. !! فقد انتقص جزء صغيرمن ملامح وجه “فاتن” واندهش أيما اندهاش وقال فى نفسه ” قد أكون أنا الفاعل ونسيت من الاجهاد فلا أحد يجرؤ على هذا الفعل ،وأساساً لا يوجد إلا مفتاح واحد معى للمرسم ..”!! وبعدها بعدة أيام تكرر نفس الحدث برسمة “فاتن” ،وبدأ يكثر من نومه ،تذكر تناوله جرعات الدواء النفسي دون الرجوع للطبيب ، وعدم مفاتحة عمه عن ما يحدث له من تغيرات ، وزادت مشاكل اللوحة ،وفاتن تبتعد عنه يوماً بعد يوم، فقد توجست منه خيفة فى الأيام الأخيرة ،تغير وجهه وسالت الدموع من عينيه حين تذكر مصارحتها له بذلك أمس ،في آخر لقاء بينهما ، فقد أصبحت لا تشعر بالراحة وقت الجلسات، وطلبت رؤيته فى مكان عام ،أخبرته انها لن تستطيع إنهاء اللوحة معه ،لأن هذا يضايق ابن خالتها ويقلقه ، قابل نديم هذا التصريح بمنتهى البرود وشعر بنوع من الدوار المؤقت ولكنه تمالك نفسه ، وذهب إلى منزله وغط فى نوم عميق إلى أن استيقظ الآن على هذا الصداع المدمر ولكنه همس مصارحا نفسه : سأنتهي من هذه اللوحة وأقاطع المهدئات نهائياً فلا فائدة منها سوى الصداع و الطنين المدمر داخل رأسي .. قام مترجلاً إلى اللوحة أزاح الغطاء عن اللوحة ، لينهيها .. فرأى ما أرعبه ” كانت هناك المدية الخاصة به والتى يحملها دوماً ،مغروسة فى الصورة (داخل صدر فاتن تخترقه وبها بعض البقع الحمراء الداكنة ) .. عندما انتزع المدية من اللوحة تلمس البقع الحمراء وقربها من أنفه فتأكد أنها دماء ” .. لف حول نفسه غير مصدق ما يحدث ،حاول أن يتذكر أى حدث .. لكنه لم يقو على تجميع أفكاره ، وشعر بصداع قاتل كالذى كان يأتى إليه فى حالات الانفصام السابقة فمسك رأسه بيده متألما ووجه نظره إلى الأرض فاكتشف بعض نقط الدماء على حذائه الرياضى . وهنا دق موبايله يخبره بوصول رسالة جديدة ،أمسك به، وجدها رسالة تنعى فاجعة وفاة الزميلة ” فاتن ” إثر جريمة قتل متعمدة بمدية أو سكين نتيجة لعدة طعنات نافذة بالصدر مساء ليلة أمس . وهنا صرخ نديم وسقط مغشياً عليه .