ضبط 2.25 طن دقيق مدعم قبل تهريبه وبيعه في السوق السوداء بالشرقية    جدول عروض اليوم الرابع من مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    نقيب الأطباء: مصر الدولة الوحيدة في المنطقة لا تتعامل بقانون المسؤولية الطبية    سفير ألمانيا بالقاهرة : ندعم النمو الاقتصادي الشامل والاستقرار في مصر    مواعيد مباريات الأحد 28 أبريل.. الزمالك ضد دريمز ونهائي كأس مصر للطائرة    تقييم صلاح أمام وست هام من الصحف الإنجليزية    شكوك حول مشاركة ثنائي بايرن أمام ريال مدريد    أقباط الأقصر يحتفلون بأحد الشعانين في كاتدرائية الأنبا متاؤس الفاخوري.. صور    محافظة القاهرة تستمر في أعمال إزالة الإشغالات والتعديات عن الأرصفة    الرئيس السيسي: فيه وظائف تكنولوجية بتعمل 100 ألف دولار في السنة    محافظة القليوبية: توريد 25565 طن قمح للشون والصوامع بالمحافظة    اليوم.. «المركزي للتنظيم والإدارة» يعلن تفاصيل مسابقة المعلمين الأحد 28 أبريل 2024 (تفاصيل)    إدخال 183 شاحنة مساعدات إلى غزة عبر معبر كرم أبوسالم    إصابة جندي إسرائيلي في هجوم صاروخي على منطقة ميرون    بعد استعدادات لاعتقال نتياهو ووزير دفاعه ورئيس أركانه.. الموقف في تل أبيب    روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني    فريق حلوان يحصد مراكز متقدمة في مهرجان الأنشطة الطلابية بجامعة السويس    الرئيس السيسي يشهد افتتاح مركز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية    سعر الذهب اليوم الأحد 28 أبريل 2024 وعيار 21 الآن في سوق الصاغة بعد آخر هبوط    مباريات اليوم الأحد.. الزمالك في الكونفدرالية و«ديربي شمال لندن» ب«البريميرليج»    عاجل.. سر إنقلاب محمد صلاح على يورجن كلوب أمام الملايين (القصة الكاملة)    وزير المالية: آخر فرصة للاستفادة من مبادرة سيارات المصريين بالخارج .. غداً    مصرع شخص وإصابة 23 آخرين في حادث تصادم بصحراوي أسوان    مطروح تستعد لامتحانات الترم الثاني.. غرف عمليات ومراعاة مواصفات الأسئلة    ب 8 طعنات.. مقتل زوجه علي يد زوجها أمام أطفالها الثلاثة بالغربية    وزيرة التعاون الدولي تُشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالسعودية    «الإسكان» تؤكد مواصلة توفير فرص استثمارية بالمدن الجديدة للمصريين في الخارج    خالد محمود يكتب: مهرجان مالمو للسينما العربية.. حضرت المدارس وتميزت الأفلام الوثائقية    احتفاءً بذكرى ميلاده.. «الوثائقية» تعرض ندوة نادرة للفنان الراحل نور الشريف    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من مليون مواطن فوق سن 65 عاما ضمن برنامج رعاية كبار السن    حصول 4 برامج ب«آداب القاهرة» على الاعتماد من هيئة الجودة    42 عاما على تحريرها تنمية سيناء رد الجميل لشهداء الوطن    غدا.. «بلينكن» يزور السعودية لمناقشة وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن    العودة في نفس اليوم.. تفاصيل قيام رحلة اليوم الواحد للاحتفال بشم النسيم    بعد اتهامها بالزنا.. عبير الشرقاوى تدافع عن ميار الببلاوى وتهاجم محمد أبو بكر    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : شكرا سيدى على الدعوة00!؟    النسوية الإسلامية (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ): فى القرآن.. الناس يسألون النبى! "91"    «الأرصاد»: درجات الحرارة حول المعدلات الطبيعية هذا الأسبوع    نصائح هامة لتنظيم ساعات النوم مع التوقيت الصيفي    التصريح بدفن جثة شاب لقى مصرعه أسفل عجلات القطار بالقليوبية    انتوا بتكسبوا بالحكام .. حسام غالي يوجّه رسالة ل كوبر    بطلوا تريندات وهمية.. مها الصغير ترد على شائعات انفصالها عن أحمد السقا    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    بعد واقعة «طفل شبرا».. بيان هام من الأزهر الشريف    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    مصرع 5 أشخاص وإصابة 33 آخرين في إعصار بالصين    رفض الاعتذار.. حسام غالي يكشف كواليس خلافه مع كوبر    آمال ماهر ل فيتو: مدرسة السهل الممتنع موهبة ربانية ومتمرسة عليها منذ الطفولة    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    باريس سان جيرمان يتعادل مع لوهافر ويتوج بطلا للدوري الفرنسي    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله
نشر في شموس يوم 27 - 01 - 2018

إنّ وطأة الأحداث و ما تمرّ به شعوب الأرض عموما و العربية و الاسلامية خصوصا ، لا يترك مجالا للكتابة الرومانسية و الذاتية ، بل يدفع و بشكل واع و غيرواع نحو تصوير المأساة و ندب الواقع المرّ لهذا العالم الأعمى . و بخلاف الواقعية القديمة التي ازدهرت في القرن التاسع عشر المعتمدة على محاكاة الطبيعة و التصوير المطابق للخارج ، فإنّ تناول الواقع و المأساة الخارجية في الكتابات المعاصرة إنّما يعتمد التصوير التعبيري و طرح الموضوعات بصبغة ذاتية و داخلية (1) ، وهذا جمع فذّ و متقدّم بين الواقعية بتناول الخارج و الموضوعي و التعبيرية بطرح الموضوعي بصيغ و اشكال داخلية و ذاتية . و من هنا صح أن نسمّي الكتابة الجديدة التي تتناول الواقع بأنها واقعية جديدة لإختلافها تقنيا عن الواقعية القديمة و صحّ أيضا أن نصفها بالواقعية التعبيرية لهذا المزج بين ما هو ذاتي و ما هو موضوعي .
لقد أشرنا في مناسبات كثير و في مواضع عدّة من كتابنا ( التعبير الأدبي )(2) أنّ الكتابة ذات الملامح الإنتمائية و المرتبطة بالواقع و الخارج تمثل شكلا من أشكال الأدب الرسالي . و أنّ هذه النصوص الرسالية و بمحافظتها على المستوى الفني العالي الذي وصلته الكتابة المعاصرة و ما صاحبها من تغيّر في الوعي تجاه اللغة عموما و الكتابة خصوصا و الأدب بشكل أخصّ ، تحقّق أدبا رفيعا عذبا يضرب بعيدا في جهات عدّة أهمها تجاوز اخفاقات الحداثة و عزلة الأدب عن الناس ، بالأقتراب منهم و الكتابة بلغة قريبة بعيدة عن التحليق و التحصينات الرمزية العالية ، و من جهة أخرى أنّها تقدّم أدبا عذبا مبهرا و بنكهة عالمية يمثّل المرحلة و يواكب عصر العوالمة و تداخل الثقافات و من جهة ثالثة مهمّة أنّها في الشعر خاصة تقدّم نموذجا عالميا لقصيدة النثر ، يعتمد النثروشعرية ( 3) و البناء الجمالي المتواصل بكتابة شعر سردي على شكل المقطوعة النثرية بعيدا عن التحسينات الشكلية المعتادة للشعر ، و إنّما الاعتماد الكلي على توهّج اللغة و عمق نفوذها و موسيقها الداخلية و عذوبتها الظاهرة .
كريم عبد الله ، الحائز على جائزة القصيدة الجديدة السنوية لعام 2016 (4) ، يكتب نصوصا تتسم بالرسالية و تحافظ على الفنيّة و الشروط المطلوبة لكتابة قصيدة النثر ، ببناء جملي متواصل و سردية تعبيرية (5) ظاهرة و نثروشعرية جليّة . فالهمّ الوطني و الانساني حاضر دوما في كتابات كريم عبد الله ، كما أنّ الهمّ الأدبي و الجمالي حاضر أيضا بكتابة النص المواكب للقصيدة العالمية المعاصرة ، و تحضر أيضا تلك العناصر المميزة للسرد التعبيري .
لقد تناولنا كثيرا من هذه المظاهر و المضامين الرسالية و الفنية و الجمالية في كتايات كريم عبد الله في كتابنا ( التعبير الأدبي ) و في غيره لأهمية هذا الشاعر ، هنا سنعمد الى بحث أسلوبي في تجلّ تلك المظاهر الواقعية التعبيرية في شعر كريم عبد الله ، و بالضبط نظام و حالة المزج بين ما هو واقعي و ما هو تعبيري في الوحدات الكلامية من النصوص ، و لقد بينا في مناسبة سابقة (6) أن الواقعية الجديدة في الشعر ، لها أشكال منها النص البسيط كما عند أنور غني و منها القصيدة السريالية كما عند فريد غانم و منها السرد التعبيري كما عند كريم عبد الله ، و أشرنا هناك أنّ الجامع لذلك هو اللغة المتموجة التي تتنقل بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي .
و من المهمّ الأشارة هنا أنّ تلك التصنيفات و التسميات التي نعتمدها إنما هي وليدة الحاجة و الضرورة لأجل مواكبة النص المعاصر و القصيدة المعاصرة ، حيث أنّا في كتبتنا و بحثنا – و كما يعلم الكثيرون – نتجه من النص الى النظرية و ليس العكس كما يفعل البعض بالنزول من النظرية الى النص بأحكأم مسبقّة و ممارسة وصاية فنية و جمالية ، لأنّ وظيفة النقد و البحث الأدبي هي متابعة النص و ملاحقته و النظر اليه كظاهرة انسانية بتجرد و بحريّة من دون اسقاطات و لا تكلفات ، وهذا ما نسميه النقد الصادق الذي لا يرى في النص الا ما فيه و لا يحاول أبدا تطبيق نظرية جاهرة على النص كما في المدارس البنوية و ما بعدها من تفكيكية و أسلوبية و التي لا يمكنها الصمود أمام سعة تجربة و ثراء القصيدة المعاصرة ، بل لا بدّ من اعتماد نقد منفتح و حرّ و مرن و أمين و مؤمن بالنص ، يضعه في المقدمة ليس فقط باعتباره مادة بحث فقط بل باعتباره منجماً للعطاء و الاضافة مع اعتماد السهولة و الوضح في الافكار و التعابير . وهذا ما يمكن أن نصفه ( بمابعد الأسلوبية ) في النقد و البحث الأدبي .هنا سنتناول مقاطع من مجموعة قصائد للشاعر كريم عبد الله نشير فيها الى ملامح الواقعية التعبيرية ( الواقعية الجديدة ) في الشعر كنماذج أسلوبية و أشكال كتابية . و هذه القصائد كلّها منشورة في مجلة تجديد الأدبية المكرّسة بالكامل لقصيدة النثر السردية الأفقية ( 7) .
من الموضوعات الحاضرة في شعر كريم عبد و كنموذج للرسالية و التعبير الانتمائي هو الحزن و الأسى للخراب و آثار الحرب ، اذ لا تجد نصّا له الا و تجده معجونا بهذا الحزن .
في تعبيرية عالية لواقع مرّ و أعمى يحضر الظلام فيه و الأسى و يتخفّى خلف كلماته الفاعل المخرّب كحالة من المسكوت عنه و نظام من الغياب و الحضور للمعاني و الدلالات ، حيث يقول كريم عبد الله في قصيدة (خيانةٌ في تلافيفِ العقل )
(شمسٌ سوداء تتشمّسُ عليها خيانة أسئلةٍ مِنْ مقابرها الموغلةِ في أعماقِ الأنا . تتسلّلُ بلا صوتٍ بعنادٍ ترفضُ الظلامَ .../ دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح يسرقُ الأمانَ لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس .../ كالشياطين تتراقصُ تُحكِمُ أقفالها على منافذِ رحلةٍ ملغومة تشدُّ إلى نفقٍ كابوسهُ طوييييييييييل ..)
انّها الشمس السوداء المظلمة ( نظام رمزي ) و أسئلة خائنة متجذرة في عمق الأنا ( نظام تعبيري) في نظام مجازي رمزي ، تتسلل بلا صوت عناد يرفض الظلام ، انه الخواء و وجه الخراب ( نظام توصيلي ) ، في ( نظام سردي ) . ثمّ ترجع اللوحة بصورة أخرى ( فيسفسائية تعبيرية ) (دويٌّ يمعنُ حفراً في أخاديدِ تجاويفِ الروح ) ( خيالية رمزية ) هنا مرآة و ترادف معنوي للجملة الأولى ( مقابر موغلة في عملق الأنا ) ، مما يحقق الفسيفسائية . ثم هو ( يسرقُ الأمانَ ) ( واقعية ) وهنا شرج للشمس السوداء وهو ايضا فسيفسائية تعبيرية فهو ( لا يورّثُ إلاَ أرتالاً مِنَ المتاريس ...) ( توصيلية و واقعية ) وهنا يحضر خيط الى المسكوت عنه من حيث الارتال و المتاريس وهي وطأة الحرب .
في ما قدّمناه من استقراء أسلوبي كشف عن انظمة معقدة تعبيرية ، تصف واقعا محزنا و آثارا مدمرة و ظلاما يتجذر في النفس ( الكلية ) ، بلغة متموجة تتراوح بين التوصيلية و الرمزية و بين الواقعي و الخيالي ، و بسرد تعبيري بقصد الايحاء و الرمز و ليس بقصد الحكاية و القص ، مع توظيف للفسيفسائية تجذيرا لرسالة النص و تمكينا للفكرة و مزيد بيان لوطأة و عمق المأساة ، فانّ من أهم دواعي الكتابة الفسيفسائية هو تجذير الرسالة و تعميقها في نفس القارئ .
و تحضر الواقعية التعبيرية بصور الحزن و الأسى و الخواء و الخراب في قصيدة (قيامةُ الأدغالِ المرتجفة )
( تفقّدَ أضلاعَ أيامهِ ../ كانَ ضلعٌ أعوج يتمطّى ../ تركَ القفص مهجوراً ../ بلا جدوى........... غاباته الغارقة بأسى الشفق ../ أمطرتْ بعشراتِ الحكايات ../ فشبَّ في النهاراتِ حريق ../ ............... / لكنَّ مساحات الندم ../ إفترشتْ لوعةَ القنوط ...المواعيدُ على غيمةِ الرحيل .../ التذاكر مسروقةٌ في كفِّ العطش .. حقولُ القمحِ فوقَ الصدرِ تحلمُ بنيّسان المناجلُ جرّحتْ أخاديدَ جوع الينابيع ... على هاويةِ الحزنِ الساكت ../ شربوا الملذّات بكأسِ التشفّي ... )
و هنا أيضا و بسرد تعبيري و نثروشعرية ظاهرة و لغة متموجة تتنقل بين الواقعي و الخيالي و التوصيلي و الرمزي ، يوثق لنا كريم عبد الله الواقع المر و الخارج الموضوعي السقيم ، فالقاموس اللفظي لهذا االمقطع – وحده فقط – ينقل القارئ الى الحقول المعنوية المرتبطة بالخواء و الخراب و الحزن و الأسى ، و لقد بينا في مناسبة سابقة ( 7) أنّ القاموس النصي يمكن أن يوظف كمعادل تعبيري (9) دون الحاجة الى التراكيب الجملية المعنوية ، بمعنى عدم انحصار التعبير بالجمل المفيدة بل ان مزاج النص و فضاؤه العالم و العالم الذي سيعيش فيه القارئ يعتمد كثيرا على قاموس الألفاظ التي يختارها المؤلف ، و أنّ من خلال العلاقة بين القاموس النصي و معاني الجمل و رسالة النص يمكن استخراج عدد من اشكال الانظمة التعبيرية المركبة و المعقد و التي تؤثر في وعي القارئ وهذا ما سنتناوله في مقالات قادمة ان شاء الله .
و أيضا من الأساليب التي يجيدها كريم عبد الله و التي هي من علامات الكتابات الواقعية هو توظيف المفردة اليومية و الحياتية حتى انه احيانا يستعمل المفردات العامة كما هو معروف لمتابعيه ، و كثيرا ما يستعمل أكثر المفردات حياتية و يومية و التي تخرج عن الشعر الرمانسي بالمرة يطعم بها الانظمة الرمزية . في قصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية )
نجد العنوان منشار وهو خارج نظام القصيدة الرمانسية و الكتابات الانتقائية ، وهو مختار بشكل متعمد كما يختار غيره من المفردات اللاشعرية في الشعر ، وهذا يذكرنا بحركة ( الشعر ضد الشعر ) بأن يكتب الشعر بمفردات غير شعرية هي في منتهى البساطة و اليومية و الحياتية او التقريرية فنجد القصيدة التقريرية او الاخبارية او اليومية و كل هذا هو من الواقعية الجديدة ان صيغت بشكل جيد و وظفت برمزية و ايحائية تكسبها التوهج و الابهار .
في هذه القصيدة (منشارٌ على قارعةِ الحكاية ) يقول كريم عبد الله
(الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ، طوّفتْ في درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ في حكاياتِ أولادِ الدموعِ الرخيصة مذ كان الغراب يتوضأُ بالخطيئةِ هيّجَ إستعراض الجيوشِ الهائجةِ خيولَ الغزوات ، تستحلبُ الضواري تقاويماً تستدرجُ الآلامَ في مزادٍ مجانيٍّ مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ تروفُ وقتاً شحيح الألفةِ يتقافزُ على خارطةِ الزمنِ العجول ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ خيانةٌ مسعورةٌ تحشرجُ في أحاديث ملساءَ كجلدِ افعى تدفنُ بيوضها في صحراء تافهة تشتاقُ كثبانها نزعةَ توترٍ تعتصرُ نشوةً عجفاءَ بواعثها مركونة الى أجلٍ أعمى تسبحُ فيهِ رائحةُ القلق الخشن متخبطاً باللامبالاةِ تفخخه الاعلانات تحدُّ كتلٌ إسمنتية صماءَ . )
في هذا المقطع العالية النثروشعرية و بناء جملي متوصل ، يحقق النص شكلا جديدا من التموج اللغوي ، ليس من حيث التراكيب المعنوية بل من حيث المفردات فالنص يتنقل بين مستويات من الانشاء للمفردات فمن كلمة عالية الشاعرية الى كلمة يومية و بسيطة جدا وهكذا . فوسط الكلمات المنتقاة و العالية الشعرية نجد كلمات ( منشار ، درابين ، الاعلانات ، اسمنتية) .
و هنا تحضر ايضا الواقعية التعبير بما تقدم من مفردات يومية و بحضور الحزن و الأسى و الخراب و الخواء ، ساء على مستوى قاموس المفردات ام على التراكيب المعنوية و الافادات . فمفردات ((الحظوظُ شعثاء ، شطوط الألم ، هوادجَ حزنِ الأرض ، منشارٍ حاذقٍ ، المكائدِ الساخنةِ ، ، درابينهم الهاربة ، تسارقُ بيقينِ ، قطّاعِ الرقاب ، يتغلغلُ القحطُ ، يتوضأُ بالخطيئةِ ، تستحلبُ الضواري ، تستدرجُ الآلامَ ، مرضعتهُ رثّةُ الضرعِ ، وقتاً شحيح الألفةِ ، الزمنِ العجول ، نحسٌ ، فضيحةُ الدسائسِ ، خيانةٌ مسعورةٌ ، تحشرجُ ، أحاديث ملساءَ ، كجلدِ افعى ، صحراء تافهة ، نشوةً عجفاءَ ، أجلٍ أعمى ، القلق الخشن ، متخبطاً باللامبالاةِ ، تفخخه الاعلانات )
انّ كريم عبد الله هنا كشف عن قدرة تعبيرية مهولة ، حيث انه لم يترك اية امكانية للغة الا و وظفها لأجل بيان رسالته ، فالالفاظ مختارة بشكل يمكن من القول ان الشاعر كان يعيش اللحظة الشعرية الغارقة التي تفيض بالتعابير ، فما من مفردة الا وهي معبأة بالألم و معبرة عن الخواء و العمى باكبر قدر من طاقاتها بحيث انه لا يمكن أداء تلك المعاني بغير تلك الالفاظ . كما انّه قدّم هنا مقطوعة تعبيرية لم تدع شيئا ذكرته الى و وجهته توجيها ذاتيها و تطرفت في وصفه و بالغت في نعته و حاله وهذه من معالم التعبيرية الحقّة ، و لو أنّا اردنا تقديم نموذج للتعبيرية في الشعر فانّ هذا سيكون أحدها ليس على مستوى الشعر العربي بل العالمي أيضا .
كما أنّ هنا أساوبا آخر استخدمه المؤلف وهو تعدد الاصوات . حيث نجد تعدد الرؤى واضحا ، و لكريم عبد الله قصائد بوليفونية متعدد الاصوات كثيرة ( 10) . و نجد الرؤى و الاصوات المتعددة المحققة للبوليفونية
الصوت الاول : الحظوظ الشعثاء : ( ((الحظوظُ شعثاء تحرّكُ شطوط الألم تنقلُ هوادجَ حزنِ الأرض ، ) فالتحريك و النقل افعال فاعلة تعبر عن تبئر خارجي و محايد للمؤلف و يتجلى صوت الفاعل .
الصوت الثاني : المنشار : ( خَبَرتْ حنكةَ منشارٍ حاذقٍ يدمنُ لعبةَ إقتناص المغانمِ الوفيرة مبتسماً يمارسُ طقوسَ المكائدِ الساخنةِ ،) فحاذق و مقتنص للمغانم و مبتسم كلها تعبر عن جهة و رؤية الفاعل و الشخصية النصية و ليس المؤلف بالطبع .
الصوت الثالث : النحس : ( ينزُّ مِنْ طيّاتهِ نحسٌ يذرقُ مبتهجاً في ماسورةِ الحلمِ يحلمُ أنْ يكونَ متأنقاً مرفوعَ الرمح تعلوهُ فضيحةُ الدسائسِ ) فالنحس يذرق مبتهجا و يحلم ان يكون متأقنا مرفوع الرمح ، وهذه كلها من بؤرة الشخص الثالث الذي لا يتدخل و يحايد بينما عبارة ( تعلوه فضيحة الدسائس ) هي من انطباع و رؤية المؤلف . و هكذا في باقي النص . و من الواضح أن البوليفونية و تعدد الاصوات و الذي هو من سمات الرواية اساسا ، غالبا ما يكن في الشعر ملتصقا بالرسالة و الانتماء و بيان الواقع و اداة تعبيرية للتعبير عن الخارج و الموضوعي و يختلف جدا عن التعبيري الغنائي و الرمانسي الغارق في الذاتية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.