أخرجت دفتر همومها اليومية وأضافت همًا جديدًا. أغلقته بعناية حرصًا منها ألا يقع منه أحد الهموم فتراه أعين الغرباء. نظرت فى المرآة لترى خيوط الحزن مرسومة كخريطة عشوائية على قسمات وجهها المنهك بفعل الأوجاع المتتالية.. واتخذت قرارها. ارتدت أفضل ثيابها المهملة منذ سنوات؛ ذلك الفستان الهفهاف الأبيض بدون أكمام. رسمت على وجهها خطوط سعادة وهمية. ابتسمت، وخرجت من باب حجرتها الذى ضاق بوجودها خلفه. نزلت إلى الشارع لأول مرة منذ أسابيع.. شعرت بغربة شديدة مع الهواء والشمس والبشر. فكرت فى العودة إلى جحرها مرة أخرى ولكنها كانت قد عقدت العزم على المضى قدمًا. قبل ان تتردد ثانية كانت قد أوقفت سيارة أجرة: – على فين يا أستاذة – أقرب مكان تأجير موتوسيكلات قالتها وانفجرت فى الضحك حيث أن ذلك لم يكن فى مخططها على الإطلاق.. كل ما كانت تود أن تفعله أن تمشى على ضفاف النيل وتترك الهواء يداعب شعرها فيخلق فى روحها لحظة حرية عابرة هى فى أمس الحاجة إليها. حدق السائق فيها مليًا وعيناه على وسعهما؛ فبالرغم من مظهرها الخادع إلا أن سنين تحفظها الطويلة قد انطبعت على وجهها بشكل واضح وصريح، ليست هى أبدًا من النوع الذى قد يذهب لاستئجار دراجة نارية.. كاد أن يناقشها ولكنه تراجع أمام ابتسامتها الباهتة وجدار الثلج الذى أنزلته فجأة ليفصل بين المقاعد الأمامية للتاكسى حيث يجلس والمقاعد الخلفية حيث تستعد هى لتجربتها التى لا تعلم كنهها بعد. توقف التاكسى أمام محل لتأجير الدراجات النارية وودعها بنظرة متفحصة ومشفقة ثم رحل. دخلت إلى المحل وطلبت من مندوب، بكل ثقة، استئجار دراجة نارية: – بتعرفى تسوقى موتوسيكل؟ – (صمت) – أصل ده مش زى سواقة العربيات – (صمت) رمقته بنظرة حادة وابتسامة باردة كتلك التى استخدمتها مع السائق.. أعطاها الأوراق المطلوبة وسلمها المفاتيح، وتمنى لها السلامة راجيًا فى سره أن تعود الدراجة بخير وأمان. انطلقت بالدراجة النارية إلى خارج المحل ببراعة فائقة وكأنها قد ولدت على متن واحدة من أولئك الدراجات؛ هى التى لم تقد أى شىء يمكن أن يقاد طيلة حياتها بل كانت هى من تقاد إلى مصائر مختلفة. صعدت إلى الكوبرى.. جذبتها فكرة أن تكون فى أعلى نقطة حيث تقترب من السماء التى تخشاها، وهى التى عانت طوال عمرها من وسواس الأماكن العالية المفتوحة حيث لا أرض تحميها. فتحت ذراعيها حتى تشعر بذلك الإحساس الجديد بأقصى درجات جموحه. طار شعرها فى الهواء ومنحها تلك اللحظة المهيبة من الحرية التى لطالما حلمت بها. فتحت عينيها على وسعهما لترى الشمس التى كانت تهرب منها. فجأة تغير كل شىء.. شعرت بجمود غريب يسرى فى جسدها بعد هذه الحيوية المباغتة، وتغيرت الألوان فى عينيها. كانت عند مفترق طرق عندما صدمتها سيارة ثقيلة. لم تشعر بقفزة جسدها فى الهواء حتى لامست السماء بطرف فستانها، ولم تشعر بلحظة ارتطامها على الأرض. كل ما يمكنها رؤيته الآن هو خيط أحمر يخرج من جمجمتها ويرقد بجانبها مختلطًا بلون الأسفلت الأسود. ذكرها هذا الخيط بدماء أبيها فى الصحراء مع اختلاف الألوان بشكل يليق مع حياة كل منهما؛ فلون دماء الأب الأحمر على الرمل الأصفر كان يليق بحياته التى اتسمت بالتوهج والحرية والألوان الفاقعة فجاءت لحظة موته بنفس وهج حياته، أما هى فقد جاء الخيط الأحمر ليرسم فى لوحتها السوداء خطًا ملونًا وحيدًا، حتى لا ترحل بلا لون.