قدّ نَدهش في البداية قليلاً – ما لمّ نكُن من متابعيهِ – من قدرتهِ الفائقة في إلتقاطِ أبسطْ الأحداث التي لا تعلقْ كثيراً في أذهاننّا لفترةٍ طويلة ، فَتُطوي في العادة بحدثٍ أكبرأو أصغر ، لكن كاتبنا القدير يملك مع قدرة الإلتقاط والتخزين ، قدرة إعادة بعث الحدث من جديد وإحياؤه كحدث متحرك ونابض بنفس الأشخاص والأجواء لكن في صورة فكرة ربما أرهقه تخِزينَها ، إما لمرارة الحدث أو قوة الفكرة التي يرى ان التعبير عنها من خلال هذا الحدثٍ جاء وقتها ، فيضع الفكرة بين شخوص واجواء الحدث ، فيكون لها الصوت والنبض الأقوى عنها ، وتلك ميزة نلّمسُها ويلمسُها المتابع لإبداعاته النصية . الحدث هنا في " المُستئْذبُ " يتجسد في علاقة ربطت بين كلبٍ ، ككلبٍ يفترشُ الرصيف راقداً امام مقهي بوداعة ، يبحثُ ككثير من رواد المقهي عن الأمنِ والدفئ ، ولو بدون طعامٍ مكتفياً بالأُنس والحركة ، والأصوات من حوله مُنفْساً عن مشاعره بحركة هز الذيل حيناً او أن يلعق بلسانهِ اطرافَ أصابعهِ أو أذنيهِ ، مُتَناوماً أو ناعساً في أحياناً اخرى ، تماماً كما يجلسُ علي المقهي في مقابل الراوي ، شخصان وجدا في المقهي بِغيتّهُما في شخص يرصدانهِ أو ينتظران الوقت لتنفيذ مُهمتّهما المُكلفانِ بها ، لكنهما عكس الكلب في توتر وقلق وتحفز ، فَهُما عكسهِ تماماً لا يبحثا عن الأمن والّونْس ليحتميان بهما في برودة هذا المساء فهُما في مهمةً كئيبةً تُماثل الأجواء التي جعلت المقهى يخلو تباعاً من الزبائن ، وكأن الليلة من أولِها لأخرِها مسرحاً لميلادِ حدثٍ غير عادي توفرت له كل الأسباب ، ووقتاً ليس بالطويل وتبدأ أحداثاً مقيتة شَعر بها وأحسّها الرواي مع لحظة دخوله المقهي ، ورؤيته للرجلين الغريبيّ الشكلِ والغير عاديين في جلستهما وتحاورهما فبدأت مشاعر القلق ، والهواجس الضبابية التي تعكسها هذه الليلة وعلي هذا المقهي الذي قصده خاصة بعد أن بدأ روادهُ في التناقصِ والإنصراف في تتالي وحذر شبه ملحوظ ، خشية تصاعد الأحداثِ فجأة كما إِعتادُوا ، وهنا إِعترى الراوي مكبوتاً درامياً نابعاً من حالة القلقِ والتربص ، والتوقع ، مع الإيقاع المتصاعد الذي إنتهى بإنصراف احد الرجلين المشبوهين ، فإستطالت مدة نظرته للكلبِ وخاصةً إلي عينيهِ ، وما بين تاريخهُ منذ أن كان جرواً حتى إشّتد عُودهُ ، وما عاد جرواً اليفاً كما كان بالمرة ، ربما لتغير الأجواءِ والبشرِ وما حولهِ ، فلم يعُد أحد ربما لحجمهِ المتنامي يتعامل معه كجروٍ وديع ، فبدأ بإستخدام أدواتهِ ومهاراتهِ حينا لدفع الأذي المتوقع قبل حدوثه أو كرد فعلٍ حيواني مطبوعٌ عليهِ ، إستعرض الراوي ذكريات طفولة هذا الكلب ، والتغيرات الأخيرة التي بدت عليه الأن ، بدايةً من تَغيّر ملامحهِ ، وبروز إحمرارٍ غير عادي في حدقتي عينيهِ ، والتماعٍ بهما واضحٌ وصريح ، مع بروز انياباً ليست كأنيابهِ العادية ككلبٍ ، وصوتاً كحفيف أفعى تتحفز ، وهنا تَبرِزُ المُفارقة أوالدلالةُ الرئيسية للنص وهو التحول في حالة الكلبِ إلي ذئبٍ بريّ متوحش ، في حالة من التوجس آلمت به نتيجة التغير في الأجواء من حوله ، وهو مايعادله تماماً ويمكن إدراكه من تحرك احد الرجلين إلي خارج المقهي وسماع صوت الريحُ العاصف والمطر و وصوت عواء ذئابٍ ، لنُدرك تمام التحول لإنسانٍ من حالته كأنسان إلي حالة ذئبٍ لا يبق ولا يذر هذه المشاعر والرؤى جعلت الراوي يشعُر بتضاعف الرعب والخوف والقلق ، لينتهي المشهد / الحدث ، بتغير تدريجي لأجواء المسرح كلية ، يُشعرُنا الراوي به ، فبعد المطرَ ،والريحَ ، وعواء الذئابِ ، و إختفاء الكلب ، وظهور علاماتيّ الإحمرار علي وجه الرجل ، نجد المسرح كما بدأ عودٌ إلي بدء … يعود إلى السكون فالرجل المجهول ،تجاهله والكلب إختفى ، فحدث ما حدث ولم يرهُ ولم نرهُ معه ، فحدث المتوقع ، كما توقعهُ وتوقعنا معه ، وأيضاً كما أراد مُبدعنا القدير . هذا كان إستعراضا مُختصراً للحدث ، الذي استطاع كاتبُنا القدير في إستعادتهِ له ، أن يُلبسهُ فكرته التي شغَلتهُ فتداعت الفكرة يجسدها إنساناً وحيواناً . …. النص سردياً ولغوياً يواصل به الكاتب تميزهُ وحرفيتهُ المتناهية البلاغة في الصياغة عبر دلالات خادمة وموظفة جيداً وممتعةُ في آن واحد ، فهو ينّثرُ من الدلالات في ثنايا النص ما يجعلُ السياقَ دافقاً للأحداث مع عناصرها الكامنة لتؤدي دورها غير الملحوظِ في البناء الدرامي ويُمهد ببساطة للنتائج بنفس القدرة على توليد بنائية جديدة لحدث جديد في تراكيبية غير ملموسة لكنها مؤديةً ومؤكدة لقوة الحدثِ وأهميتهُ الدرامية . وبوجه عام – وهذه إحدى قصص مجموعته ( أسف فوق البحر ) – نلمس لدى الكاتب مخزوناً لا ينضبُ من تأثيرات قوية وفعالة لأحداثٍ عاشها بشخصهِ ، أومعاناة ادركها ولمس عمّقها فكان التعبير عنها في إبداعاته ليس فقط وسيلة لتسجيلها قبل ان تنزاح ككل الأحداث التاريخية بمرور الزمن أو طغيان أحداثً أكبر بعدها ، لكنه – فيما يبدو – أراد بهذا التسجيل القصصي الرائع أن يهدي نياشيناً وبيارق ونجمات لأبطال حقبة زمنية بعضهم لا زال موجودا ، وبعضهم رحل ، ولكنهم من موقعهم في السماء يرمقون واقعاً عساه يحقق لهم عظيم تضحياتِهم ، اتصورهم ينثرون زهراً ووروداً لمن إنحنى لهم ، فرفعَهُم ، اديبنا / هادي المياح … طوبي لك مني ، ومنهم مُبدعاً راقياً .