د.إلهام سيف الدولة حمدان – مصر هل نستطيع أن نثبت ولو لمرة واحدة خطأ المقولة الشائعة؛ التي يتندربها البعض إعجابًا ودهشة وخيلاء ويرددونها بكل الفخر: "إننا شعب مالوش كتالوج" ! وتلك مصيبة من مصائب الثقافة الشعبية التي يقوم بالتنظير لها وتوجيهها منذ زمن فلاسفة ومدعو الحرية الفوضوية؛ والترويج لوهم الحرية الشخصية؛ فأصبحنا بقدرة قادر 90 مليون مفتي؛ وكلٌ له الباع الكبير في السياسة والإقتصاد والثقافة والفنون والتعليم والتجارة والزراعة والصناعة ؛ والذرَّة واللي مش ذرَّة، ولابد لنا أن نعود لنؤمن بأهمية وضرورة أن نتفق على أن نتفق، وإلا .. فالخطر قادم ، وسننقرض كما انقرضت جحافل الديناصورات في العصور السحيقة، ونصبح سطرًا في كتاب التاريخ الذي لن يرحم ! فالشعوب تظهر معادنها الأصيلة في كيفية مواجهة ومعالجة المشاكل الحياتية الطارئة والتفاعل معها، والخروج من أتون المعارك الجانبية بأقل الخسائر الممكنة؛ والعودة للإنطلاق من جديد نحو الأهداف السامية التي تعارفت عليها كل المجتمعات الإنسانية ، ونبذ كل من تسول له نفسه التلاعب بقوت الشعب، وعلى رأسهم التجارالذين يزداد جشعهم كلما ضاقت الحلقة واستحكمت؛ دون وازع من ضمير، أو رادع من إيمان بعقيدة أو دين . فالساحة المصرية تشهد هذه الأيام موجات متتالية عاتية من غلاء الأسعارالمتعمد؛ تضرب شطآن المجتمع في عنف وبلا هوادة؛ وآخرها الارتفاع الجنوني في أسعار البديل الوحيد للبروتين الحيواني؛ وهو "البيض"، الذي يلجأ إليه الفقراء لتعويض عدم القدرة المادية في الحصول على "اللحوم" التي ارتفعت أسعارها إلى عنان السماء دون مبرر؛ إلا الحجة الوهمية بانخفاض قيمة العملة المصرية "الجنية" أمام المارد الذي يجتاح العالم وهو المدعو السيد " الدولار" !! ولنا أن نسوق اليكم تلك الواقعة الشهيرة في أمريكا الجنوبية؛ فقبل بضع سنوات استيقظ الشعب الأرجنتيني صباح أحد الأيام؛ وإذا بتجار الدواجن والبيض قد اتفقوا على رفع سعر "البيض" كلهم مرة واحدة، وعقدوا اتفاقهم دون أن يفكروا لحظة واحدة أن هناك من لا يستطيع أن يجد قوت يومه، وأن هناك من يكد النهار والليل ليسد رمق أطفال جياع .. هل تعلمون لماذا ؟ لأنهم تجار جشعين لا يهمم إلا امتلاء جيوبهم بأموال الناس كيفما اتفق .. فماذا حدث بعد ذلك؟ لقد كان المواطن الأرجنتيني ينزل إلى السوبر ماركت ويأخذ البيض وعندما يجد سعره مرتفعًا فإنه يعيده إلى مكانه؛ وكان هذا هو حال جميع المواطنين الأرجنتينيين، ومنطقهم يقول : دعوه يفسد ! وانتصرت الإرادة الشعبية التي تضافرت في مواجهة جشع التجار، الذين تورطوا في الكميات التي تكدست في الثلاجات والمخازن والمستودعات ومحال البقالة؛ وأصرالدجاج الخائن على مناصرة الشعب؛ بمواصلة إنتاجه من البيض دون توقف !! ورضخ التجار للحملة الشعبية التي تمت بالتضافر الواعي بين أفراد المجتمع، ولأن حجم الخسائر كان كبيرًا؛ عادت الأسعار إلى أقل من النصف؛ بالإضافة إلى تقديم اعتذاررسمي للشعب في الصحف اليومية، مع الوعد بعدم العودة إلى هذا الخرف والتخلي عن الجشع ! ولعلنا نذكر الزعيم الروحي للشعب الهندي "المهاتما غاندي" وكيف دعا إلى مقاطعة بضائع الاحتلال الإنجليزي؛ برغم أن «غاندي» لم يكن يتوقع أن يتحطم اقتصاد المستعمر من خلال فكرة المقاطعة؛ إلا أنه كان يعرف قوة إرادة الشعب الهندي وعزيمته لمقاطعة المنتج الأجنبي وإحلال المحلي بدلًا منه؛ وقرر أن يبدأ بنفسه قبل دعوة الآخرين للالتحاق بالمقاطعة، حيث أحرق كافة الملابس التي يملكها من صناعة أجنبية ؛ والبدء بنسج قطع الأقمشة بنفسه ليرتدي الإزار المعروف ب "الكادي"، كما اقتصر طعامه على الماء القراح ، وحليب الماعز، وما تجود به الأرض من حبوب، إضافة لامتناعه عن حلق ذقنه بشفرة بريطانية؛ لتكون المحصلة الإيجابية بأن تسري روح الكبرياء والعزة في النفس لدى جميع الهنود؛ الذين استطاعوا بذلك إجبار المحتل على الرضوخ واللجوء إلى التفاوض معهم بعد أن تعرض لهزات وخسائر اقتصادية فادحة؛ أدت لانسحابه من الهند في أواخرالأربعينيات من القرن الماضي؛ وحصلت الهند على استقلالها . ترى .. هل نملُك في مجتمعنا المصري هذه القوة والشجاعة للتضافروالمواجهة والمقاطعة ؟ أم سيخرج علينا من يسخرمن دعوتنا إلى المقاطعة الوقتية لأي سلعة بالغ التجارفي أسعارها ؟ ولتخرج علينا صفحات الصحف الصفراء، وصفحات التواصل الاجتماعي للجالسين بجانب المدفأة بالمزيد من صورالتهكم؛ دون إمدادنا بالحلول الجذرية للمشاكل المجتمعية التي نواجهها في الظروف الحاضرة والمؤقتة، فكم من مياهٍ مرَّت من تحت الجسور في مصرنا المحروسة؛ وخرجت من كل المِحن أشد عافية وقوة بتضافرالمخلصين والشرفاء من المصريين الذين يعرفون حق الوطن وقدره . لاأخفي سرًا .. إذا قلت إننا بحاجة ماسة إلى استحداث آلية تحمي المواطنين من جشع التجار، وسن القوانين والأحكام الرادعة الجادة والفورية في مكان الحدث؛ ورقابة الأسواق بمعرفة مفتشي التموين، وبكوادروطنية مدربة من ذوي الضمير الحي، لأن المواطن العادي ليس لديه ثقافة المقاطعة الجادة والحقيقية، ويجب أن يتم تنمية دور مؤسسات المجتمع المدني في تثقيف المواطن وتوعيته، وهذا لن يحدث على المدى القريب؛ إلاً إذا أصبحنا يدًا واحدة كالقبضة الحديدية في وجه جشع التجار. وداعًا ولو مؤقتًا ل " البيض " وتحية خالصة من القلب للدواجن التى تصرعلى المزيد من الإنتاج ! أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون