الأفكار العظيمة .. لاتموت! ويظل الفضل منسوبًا لأصحاب التجليات التي تبرق في خيالاتهم وتتحول إلى حقيقة ملموسة؛ تخرج إلى الوجود لتنتفع بها البشرية؛ وتأخد بيدها إلى الارتقاء والتحليق في سموات الفن والإبداع الخلاَّق . فهل نستطيع أن نتكلم عن معجزة بناء الهرم الأكبر في حقبة مصر الفرعونية دون أن نذكر الملك"خوفو" الذي أمر بتشييده بتلك العظمة؛ ليقف شاهدًا على الشموخ والخلود للمصري القديم . وإذا كان لنا أن نتحدث عن الأفكار العظيمة ؛ فلنختر "المسرح التجريبي" الذي انتهت فعاليات مهرجان دورته ال 23 منذ أيام ؛ فلابد أن نذكر بالفضل والعرفان الدور الريادي للمفكر الكبير أ.د.فوزي فهمي؛ الذي تسلم الشعلة من مفجّر الفكرة وزير الثقافة الأسبق الفنان فاروق حسني بعد الدورة الأولى 1988؛ حين أسند إليه الوزير رئاسة المهرجان منذ العام 1989 حتى 2010، وتقوم فكرته على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المختلفة للمسرحية من حيث الشكل أو الرؤية؛ لكي تقدم لنا فكرة متقدمة عما هو موجود بالفعل، وكلمة تجريب مرتبطة بالتحديث وهذا الربط يفصل بين الأصالة والمعاصرة، ويخاطب مختلف التيارات الفكرية والسياسية والعقائدية . وقد سعدنا بعودة أضواء المسرح التجريبي بعد توقفه خمس سنوات نظرًا للأحداث السياسية ، وتغيرت إدارته بعدما ارتبط المهرجان منذ نشأته باسم أ.د. فوزي فهمي الذي انسحب من المشهد حاليًا؛ ورفض طلب إدارة المهرجان تكريمه في افتتاح هذه الدورة ؛ حيث يؤمن بأن تكريم أستاذه شيخ النقاد أ.د.محمد مندور له ؛بمقالته التي خصصها للإشادة ببحث تخرجه في مرحلة بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية، وعن كون جيله يغير المفاهيم، هو أسمى وأعلى التكريمات، ولا يدانيه أي تكريم من أية جهة؛ لأنه يعده الأب الروحي لمسيرته الأكاديمية : الفكرية والأدبية، ويتضح هذا في مشاعر الوفاء والإعجاب التي يسردها في كل مناسبة وكل محاضرة بالأكاديمية . ونعود للإضاءة على أهمية الدور الذي يلعبه المسرح التجريبي في عالم اليوم؛ هذا العالم المليء بالصراعات العنيفة وطموح البشرية في كل مكان لحياة خالية من الفقر والجوع والمرض؛ والارتقاء بالنفس البشرية عن طريق الفنون والإبداع الذي يستشرف المستقبل بعيدًا عن التقاليد المتوارثة؛ والابتعاد عن القوالب الكلاسيكية الجامدة؛ واتباع الإبتكار والتجديد الذي تبنَّتهُ الحركات الطليعية التاريخية خاصة في أوروبا في صورة المذهب الواقعي الذي سرعان ماتمردت عليه العقلية المبدعة في الشعر والرسم والنحت والمسرح ؛ فظهرت على الساحة الثقافية مذاهب الرمزية والتكعيبية والتعبيرية والسريالية والتركيبية وغيرها. ولأن طبيعة الحياة هي الجنوح الدائم إلى التغيير وعدم الثبات، ولأن الفن من طبيعته القلق الدائم لتغيير المجتمع إلى الأفضل، توالت الإبتكارات والتجديدات في الشكل والمضمون؛ في ظل المنافسات الإيجابية الخلاَّقة التي تثري العقل البشري وتعمل على أن تضيء الأركان المظلمة من الحياة . والملاحظ أن كل تيار جديد يظهر على الساحة الفنية؛ كان يدَّعي لنفسه الثبات والخلود؛ حتى تهب عليه رياح التغيير من جديد، فالتغيير مستمر منذ قدَّم الفراعنة الفنون المسرحية المتعددة التي نطقت بها النقوش الموجودة بمحيط المقابر الفرعونية وأعمدة المعابد، التي تدحض الشائعة بأن الإغريق هم أول من قدموا فنون المسرح؛ بعد أن وُجد الدليل القاطع على أن الفراعنة هم من قدموا للعالم هذا الفن الراقي؛ وكانت عروضهم تتضمن محاكاة للأساطير الشهيرة بثقافتهم؛ وبخاصة تجسيد أسطورة إيزيس وأوزوريس المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالوجدان الشعبي المصري . ومسرحنا التجريبي المصري لم يكتف بنظرية إسقاط الحائط الرابع؛ بل جعل المكان والزمان والجمهور جزءًا لايتجزأ من عروضه التي أبهرت النظارة من المصريين والعرب من كافة الأقطار الذين حضروا للمشاركة أو المشاهدة، تلك العروض التي أنقذت الحركة المسرحية المصرية والعربية من الوقوع في أسر الجمود والتقليد ؛وأفسحت مساحات أوسع للتعبير وللتجريب، ومنح الفرص للعناصر الشابة لطرح كل ماهو جديد في أفكارهم، وهو ضرورة لحيوية المسرح والإبداع بشكل عام . وحفاظًا على البذرة التي غرسها في تربة الإبداع الفني المصري بريادة أ.د.فوزي فهمي المحنكة حين تلقف الفكرة وحولها إلى واقع ملموس أثرى عالم المسرح بعروض 47 دولة وبالندوات المنظَّمة والكتب المترجمة 327كتابا من كل اللغات بالتنسيق مع مركز اللغات والترجمة بالأكاديمية وهيئة التدريس بها، الذين استحقوا تحيته لجهودهم في كتاب خُصص لقائمة تلك الإصدارات فصار المهرجان ملء السمع والبصر وحفر لنفسه مكانة دولية مائزة،وليس هذا بمستغرب على من شيد 23 مبنى تعليميًا داخل حرم الأكاديمية دون أن يفكر أن يطلق اسمه على أي منها زهدًا في كل شئ سوى حب العمل والوطن. والوصول إلى القمة رائع لكن الاحتفاظ بها ليس بالأمر الهيِّن ؛لذا نهيب بوزارة الثقافة؛ وبالسادة القائمين على إحياء هذا المهرجان؛ العمل على ضرورة زيادة الميزانيات المعتمدة ماليًا؛ لإمكانية زيادة العروض العربية والأجنبية المشاركة في الدورات القادمة؛ وإعادة إصدار الكتب المصاحبة للمهرجان؛ والتي توقفت هذا العام بسبب تقليص الميزانية المالية المعتمدة إلى النصف تقريبًا، وكانت تشتمل على الكتب المترجمة حول المسرح التجريبي والمناهج والتجارب المسرحية المعاصرة حول العالم، والذي كان يتم بالتنسيق مع مركز اللغات والترجمة بأكاديمية الفنون . إنها مصر : نهر الحضارة .. فلا تبخلوا بمائها على ظمي ! أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون