أولاً : تعريف علم الدلالة: لعلم الدلالة أسماء عديدة في الفرنسية والإنجليزية، لكن أشهرها وأكثرها استعمالاً هو مصطلح (sémantique) في الفرنسية، ومقابله (semantics) في الإنجليزية. أمَّا في العربية فقد اختلف الدارسون في تحديد المصطلح الذي يقابلون به مصطلح (semantique)، فظهرت تسميات كثيرة لهذا العلم؛ منها: علم المعنى، السيمانتيك، علم الدلالة (سواء بفتح الدّال أو كسرها)، الدلاليات، الدلالية . وعلم الدلالة: عند معظم اللغويين هو "العلم الذي يدرس المعنى أو ذلك الفرع من علم اللغة الذي يتناول نظرية المعنى، أو ذلك الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرَّمز حتَّى يكون قادرًا على حمل المعنى"(1). وهناك تعريفات أخرى لهذا العلم؛ منها تعريف (جون ليونز John lyons) الذي يعرفه بأنه (علم دراسة المعنى)، و(بيار جيرو) الذي يعرفه بأنه (علم دراسة معاني الكلمات)، أمَّا (ليرا lérat) فيرى أنَّ علم الدلالة (هو العلم الذي يدرس معاني الكلمات والجمل والملفوظات)(2). ثانيًا : نشأة علم الدلالة:(3) لا أحد ينكر أنَّ هذا العلم كان نتيجة جهود لغوية كبيرة قديمًا وحديثًا، شرقًا وغربًا، ومن أمثلة هذه الجهود؛ بإيجاز شديد؛ ما يأتي: (أ) علم الدلالة عند الهنود(4): لقد كان كتاب الهنود الديني (الفيدا) منبع الدراسات اللغوية والألسنية على الخصوص التي قامت حوله، ومن جملة الآراء التي أوردها العلماء الهنود حول نشأة اللغة قولهم:"بوجود علاقة ضرورية بين اللفظ والمعنى شبيهة بالعلاقة اللزومية بين النار والدخان." ومن أهم المباحث الدلالية التي عالجها الهنود: 1 علاقة الكلمة بمدلولها: إنَّ هذه القضية تعرَّض لها اللغويون الهنود، وانقسموا إزاءها إلى فريقين، فريق يرى أن هناك علاقة طبيعية تربط الكلمة بمدلولها، وفريق يرى أن هذه العلاقة اصطلاحية وليست طبيعية. 2 أقسام الدلالة عندهم: اهتدوا إلى وجود (أربعة) أقسام للدلالات: تبعًا لعدد الأصناف الموجودة في الكون: (1) قسم يدل على مدلول شامل وعام مثل (رجل). (2) قسم يدل على كيفية مثل (طويل). (3) قسم يدل على حدث مثل (جاء). (4) قسم يدل على ذات مثل (محمد). 3 أهمية السياق: فهم يرون أنه :" لا معنى للكلمة المنفردة إلا في العبارة ". (ب) علم الدلالة عند اليونان: كان لليونان أثرهم البيِّن في بلورة مفاهيم لها صلة وثيقة بعلم الدلالة، فلقد حاور (أفلاطون) أستاذه (سقراط) حول موضوع العلاقة بين اللفظ ومعناه، وكان أفلاطون يميل إلى القول بالعلاقة الطبيعية بين الدال ومدلوله، أمَّا أرسطو فكان يقول باصطلاحية العلاقة، وقسَّم الكلام إلى كلام خارجي وكلام داخلي في النَّفس، فضلاً على تمييزه بين الصوت والمعنى ؛ مُعتبراً المعنى مُتطابقاً مع التَّصور الذي يحمله العقل عنه. وقد تبلورت هذه المباحث اللغوية عند اليونان حتى غدا لكل رأي أنصاره من المفكرين، فتأسست بناء على ذلك مدارس أرست قواعد مهمة في مجال دراسة اللغة؛ كمدرسة الرواقيين، ومدرسة الإسكندرية . (ج) علم الدلالة عند الرومان: لقد كان لعلماء الرومان جهد مُعتبر في الدراسات اللغوية؛ خاصَّة ما تعلَّق منها بالنحو، وإليهم يرجع الفضل في وضع الكتب المدرسية . وبلغت العلوم اللغوية من النُّضج والثَّراء مبلغاً كبيراً في العصر الوسيط مع المدرسة السكولائية (Scolastique) والتي احتدم فيها الصِّراع حول طبيعة العلاقة بين الكلمات ومدلولاتها، وانقسم المفكرون في هذه المدرسة إلى قائل بعرفية العلاقة بين الألفاظ ودلالاتها، وقائل بذاتية العلاقة. وبقي الاهتمام بالمباحث الدلالية يزداد عبر مراحل التاريخ، ولم يدخر المفكرون أي جهد من أجل تقديم التفسيرات الكافية لمجمل القضايا اللغوية التي فرضت نفسها على ساحة الفكر(5). وفي حدود القرن التاسع عشر الميلادي، تشَّعبت الدراسات اللغوية، فلزم ذلك تخصص البحث في جانب معين من اللغة، فظهرت النظريات اللسانية وتعددت المناهج، فبرزت (الفونولوجيا) التي اهتمت بدراسة وظائف الأصوات، إلى جانب علم (الفونتيك) الذي يهتم بدراسة الأصوات المجردة، كما برزت (الأتيمولوجيا) التي اعتنت بدراسة الاشتقاقات في اللغة، ثم علم الأبنية والتراكيب الذي يختص بدراسة الجانب النحوي وربطه بالجانب الدلالي في بناء الجملة. وأصبح علم الدلالة (السيماتيك) علمًا قائمًا بذاته، ولقد ظهرت أولياته وبوادره خلال القرن التاسع عشر في أعمال مجموعة من الباحثين أهمهم: (ماكس مولر Max Mullar) الذي صرح في كتابين له أن الكلام والفكر مُتطابقان تمامًا. (رايزغ KALL Raiziz) الذي نشر سنة 1839م كتابا عنون جزءه الثاني ب (sémasiologie) لكن علم الدلالة عنده ليس علمًا قائمًا بذاته،وإنَّما هو إلى جانب التركيب والمورفولوجيا جزءًا مكونًا للنحو. ثالثًا : علم الدلالة عند العرب : في الجانب الآخر كان المفكرون العرب قد خصَّصوا للبحوث اللغوية حيزاً واسعاً في إنتاجهم الموسوعي الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية؛ كالمنطق والفلسفة، علوماً لغوية قد مسَّت كُلَّ جوانب الفكر عندهم، سواء تعلَّق الأمر بالعلوم الشرعية؛ كالفقه والحديث، أو علوم العربية؛ كالنحو والصرف والبلاغة، بل إنَّهم كانوا يعدُّون علوم العربية نفسها وتعلمها من المفاتيح الضرورية للتَّبحر في فهم العلوم الشرعية، ولذلك "تأثرت [العلوم اللغوية] بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها. وقد تفاعلت الدراسات اللغوية مع الدراسات الفقهية، وبنى اللغويون أحكامهم على أصول دراسة القرآن والحديث والقراءات، وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس والإجماع والاستصلاح تماماً كما فعل الفقهاء في معالجة أمور علوم الدين".(6) ويؤكد عادل الفاخوري أنه "ليس من مبالغة في القول إن الفكر العربي استطاع أن يتوصَّل في مرحلته المتأخرة إلى وضع نظرية مستقلة وشاملة يمكن اعتبارها أكمل النظريات التي سبقت الأبحاث المعاصرة."(7) فالأبحاث الدلالية في الفكر العربي التراثي، لا يمكن حصرها في حقل معين من الإنتاج الفكري بل هي تتوزع لتشمل مساحة شاسعة من العلوم. هذا التلاقح بين هذه العلوم النظرية واللغوية هو الذي أنتج ذلك الفكر الدلالي العربي، الذي أرسى قواعد تعد الآن المنطلقات الأساسية لعلم الدلالة وعلم السيمياء على السواء، بل إنك لا تجد كبير فرق بين علماء الدلالة في العصر الحديث وبين علماء العرب القدامى الذين ساهموا في تأسيس وعي دلالي مهم، يمكن رصده في نتاج الفلاسفة واللغويين وعلماء الأصول والفقهاء والأدباء، "فالبحوث الدلالية العربية تمتد من القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية إلى سائر القرون التالية لها، وهذا التأريخ المبكر إنما يعني نضجاً أحرزته العربية وأصّله الدارسون في جوانبها."(8) ومن الملاحظ أن مؤرخي اللسانيات أغفلوا تلك المساهمات الرائدة للعلماء العرب في مجال البحث اللغوي، ولولا هذه الغفلة أو الثغرة كما يسميها الدكتور عبد السلام المسدي" لكانت اللسانيات المعاصرة على غير ما هي عليه اليوم، بل لعلها تكون قد أدركت ما قد لا تدركه إلا بعد أمد"(9). ولكن التاريخ على العموم حفظ بأمانة تلك المُساهمات التي كان لبعضها السبق في مجال اللسانيات، فكم من رأي قال به أحد القدماء العرب لا نجده في نظريات العالم الغربي إلا في العصر الحديث. ويذكر السيوطي في (المزهر) العديد من تلك المسائل الدلالية؛ كالحديث في نشأة اللغة ودلالة ألفاظها، والكلام على أنواع اللغة من حيث المعنى، وبحثوا مصادر هذه المعاني المُشتركة والمُترادفة والمُتضادّة، وفطنوا إلى عمل الزمن في اكتساب ألفاظها معانيها الثانوية. كما درسوا العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى من حيث الأصوات والأبنية الصرفية، وشغلوا بدراسة الاشتقاق وأنواعه وتوسّعوا فيه، وتناولوا أقسام الكلام، وأنواع كلّ قسم، ووظيفة كلّ نوع، وأثر أجزاء الجملة بعضها ببعض (العامل)، وترتيب أجزاء الجملة (التقديم والتأخير، والصدارة في الكلام)، وما إلى ذلك من ميادين علم النّحو، فكان لهم فضل السبق في التنبيه على ما تعارف عليه المحدثون من أنواع الدلالات: الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية أو الاجتماعية، والدلالة السياقية، والتمييز بين الدلالة المركزية والدلالة الهامشية. كما تضمّنت بحوثهم أفكاراً مبتكرة؛ كمعنى المعنى، والسياق، والمقام، وأثر المشاعر النفسية في تغيير المعنى(10). الحواشي: (1) علم الدلالة ؛ لأحمد مختار عمر (ص11) . (2) ينظر:(مدخل إلى علم اللغة النظري). – J.Loyns,sematik, s.15.- J.Loyns.Einfuhung,s.409 (3) ينظر: الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي ، لمنقور عبد الجليل . (4) ينظر: علم الدلالة ، لأحمد مختار عمر (ص19) . (5) محاضرات في اللسانيات العامة والتاريخية ، لزبير دراقي (ص25) . (6) فنون التعقيد اللغوي وعلوم الألسنية ، لريمون طحان ودينيز بيطار طحان ، (ص26) . (7) علم الدلالة عند العرب (ص5) . (8) علم الدلالة العربي ، لفايز الداية (ص6) . (9) تشومسكي في عيد ميلاده السبعين: لحمزة بن قبلان المزيني (ص3) . (10) ينظر: التفكير الدلالي عند العرب ، لعبد القادر سلامي ، موقع (ديوان العرب) على شبكة المعلومات الدولية بتاريخ 20/8/2004م.