: الأسطُرلاب والجَيْروسكوب ورقصة المَوْلويّة لم تَعُد ثَمَّة حدود لعلاقة التجارب الفنية المعاصرة بسياقات العلوم والآداب، ولا لإمكانية استفادة الفنان المعاصر من ذخائر التراث على اختلاف أنماطه ومرجعيّاته. في هذا الإطار الفكري الواضح، والمُرَكَّب في آنٍ، أتوقف عند واحدة من تجاربي الفنية، التي كان لها أثرٌ بعيد في تعزيز علاقتي بالمرجعيات التراثية، بمختلف أنماطها، المادية منها والروحية، والتي أعتقد أنه لا يزال أثراً فاعلاً حتى الآن. كانت تلك التجربة قد بدأت حين استعنْتُ في عام 2000 بالخبرات العظيمة للعلّامة الدكتور "فؤاد سيزجين" (مواليد 1924) – ولقبُه "سيزجين" يُكتَبُ عادةً بالكاف الفارسية (گ) – أو ال"جيم المعقودة" (الجاف)، كما يسمّيها أشِقّاؤنا العراقيون -على النحو: "سيزگين"، والتي تُنطَقُ كالجيم المصرية (غير المُعَطَّشة): "سيزجين" – وهو عالم ومفكر ومؤرخ ومستشرق، ألماني الموطن والجنسية، تركي المولِد والأصل. كما أنه مؤسِّس ومدير معهد تاريخ العلوم العربية بجامعة "فرانكفورت". للمزيد من المعلومات عنه، راجع: http://en.wikipedia.org/wiki/Fuat_Sezgin . فخلال العام المذكور، 2000، دارت بيني وبين الدكتور "سيزجين" عِدَّة مراسلات، استشَرتُه خلالها، وطلبتُ مساعدته، حين كنت بصدد إعادة رسم مجموعةٍ من أجزاء الآلات الفلكية التراثية، وتحديد القياساتِ الصحيحة لبعض الآلات ذاتية الحركة، الوارد ذكرُها في كتاب "معرفة الحِيَل الهندسية" ل"ابن الرَزّاز الجَزْري" (1136 – 1206)، واختُتِمَت التجربة بقيامي بمحاولات لتنفيذ بعض النماذج الخشبية المبسطة لبعض هذه الآلات، كان بعضها مُصَغَّراً، وبعضها بحجمه الأصلي، شملت عدداً من أجزاء الأسطُرلاب، ونموذج مُصَغَّر كامل له، وبعض الأشكال الأوَّلِيَّة للبوصلة الجَيْروسكوبِيَّة. . مظروف أحد الخطابات التي وردتني من الدكتور "فؤاد سيزجين" عام 2000. . الوجه الآخر من مظروف الخطاب السابق. . استهلال خطاب وردني من الدكتور "فؤاد سيزجين"، بتاريخ 14 يوليو من عام 2000. . خاتمة أحد خطابات الدكتور "فؤاد سيزجين"، التي وردتني منه رداً على استفساري حول بعض النقاط الفنية، قبل تنفيذ عملي، الذي استلهمت فيه آليّة عمل الآلة الفلكية العربية. وقد اختتم خطابه متمنياً لي التوفيق في المعرض. . وقد أفَدْتُ في هذا السياق كثيراً من علم الدكتور "سيزجين" وتوجيهاته، مما شجعني بعد ذلك – حوالي عام 2003 – للإقدام على محاولة سباكة بعض هذه النماذج بخامة البرونز، مستعيناً بخبرة بعض الفنيين المتخصصين بأحد المسابك الصناعية المحلية. وكان من أهم تلك الآلات التي وُفِّقتُ إلى عمل نماذج جيدة لها، الأسطُرلاب الكروي astrolabe ericalsph أو الكُرّي، وهو نوعٌ من الأسطُرلابات يمثل الحركة اليومية للكرة الأرضية، بالنسبة إلى أفق مكانٍ معين. وكان الفلكيون المسلمون يستخدمونه حتى عهدٍ قريب، لقياس ارتفاعات الكواكب عن الأفق، وتعيين الزمن، وحل طائفة من مسائل علم الفلك الكروي. وقد وصَفَه العالم الرياضي الفلكي الجغرافي الشهير "الخوارزمي" (حوالي 781م – حوالي 847م) وصفاً دقيقاً في بعض كتاباته. النموذج البرونزي المُصَغَّر بعد اتخاذه وضع الإحداثيات المطلوبة. . الدكتور "فؤاد سيزجين" بين نماذج الآلات الفلكية العربية، التي أعاد تصنيعها بمعهده العلمي. . نَصّ تركي يتضمن تسلسُل وقائع أحد المؤتمرات، التي أقيمت بفضل جهود الدكتور "فؤاد سيزجين" في مجال بحوث الأسطُرلاب العربي. . وقد ظهر أثر هذه التجربة على بعض أعمالي الفنية، التي أنتَجْتُها في فترة لاحقة؛ وهو ما يمكن رصده بوضوح من خلال عملي، الذي شاركتُ به في معرض "نجوم الصالون"، وهو معرض جماعي، أقيم بالتوازي مع الدورة السادسة عشرة من "صالون الشباب" عام 2004، لتكريم الفنانين الذين سبق لهم الحصول على الجائزة الكبرى بالصالون، والذين سجلوا على امتداد دوراته إنجازات تستوجب التنويه. قائمة أسماء المُكَرَّمين في معرض "نجوم الصالون"، المقام بالتوازي مع الدورة السادسة عشرة لصالون الشباب، ويُرى اسم كاتب هذه السطور بأسفل، وفقاً للترتيب الهجائي للأسماء. . وقد أقيم هذا المعرض بقاعات "مُجَمَّع الفنون" بالزمالك، وكانت مشاركتي متمثلة في عمل تجهيز في الفراغ، خُصِّصَت له القاعة الشرقية العُليا من المُجَمَّع بأكملها. وقامت فكرة التجهيز على (فلسفة الدوران)، ارتكازاً على مقولات "جلال الدين الرومي"، واستلهاماً لرقصة الدوران المولوية الشهيرة – رقصة "السما" – بالتداخُل مع مستجدات العصر الرقمي. واحتوى التجهيز على مجموعة من الرسوم الجدارية، شملت الجدران الأربعة للقاعة بأكملها، بالإضافة لنموذج جهاز "جَيْروسكوب" من النحاس، تدور أجزاؤه على ثلاثة محاور، في الاتجاهات الفراغية الثلاثة. وهو جزءٌ من التجهيز الكُلّي، يمكن تصنيفه في نطاق النحت الحرَكي Kinetic Sculpture. وكان الغرض من توظيف "الجَيْروسكوب" ضِمن وحدات التجهيز، أن يبلور – من خلال حركاته الدائرية المتداخلة – الفكرة الكلية للتجهيز، القائمة على مُخَطَّط المسار الحركي للرقصة الدائرية المشهورة، ومن ثَمّ يُعادل فلسفة "جلال الرومي" الجمالية نحتياً وحركياً الصفحتان المخصصتان لكاتب هذه السطور، ضِمْن قِسم المكرّمين من نجوم الصالون، داخل كتالوج الدورة السادسة عشرة. وتُرى إلى اليمين صورة الجَيْروسكوب، وإلى اليسار جزء من إحدى الجداريات الأربع للتجهيز. . . في نقاش حول فكرة العرض وشرح آلية حركة النموذج مع الفنان أ. د. أحمد نوار، رئيس قطاع الفنون التشكيلية وقتها، ويُرى الناقد الراحل "أحمد فؤاد سليم" منصتاً وهو يتأمل جزءاً من مجسم العمل، كما يُرى الفنان أ. د. عبد العزيز الجندي أقصى اليمين. . خلال تفَقُّد تفصيلات العرض قُبَيل الافتتاح. وتظهر على الجدار بعض الوحدات البصرية ذات الصلة بفكرة الحركة الدائرية، وغيرها من الأشكال والعبارات المرتبطة بفلسفة المولوية وفنونها. . (يمكن فهم كيفية دوران أجهزة الجيروسكوب من خلال الصورتين الشارحتين المتحركتَين، عبر الرابطين التاليَيْن): http://en.wikipedia.org/wiki/File:Gyroscope_operation.gif . http://en.wikipedia.org/wiki/File:Gyroscope_precession.gif . كما يمكن فهم إمكانياتها الحركية المعقدة من خلال المحتوى الفيلمي الشارح الآتي: https://www.youtube.com/watch?v=cquvA_IpEsA . صورة توضح المسار الدوراني المُرَكَّب لرقصة "السما" المولوية. . صورة تُبَيِّن جانباً من المخططات الرياضية، التي كشفت عنها دراسة أجراها كلٌ من: "جمال جوفن"، و"جي آي هانا"، و"مارتن مولر"، حول العلاقات الفراغية بين تنورة الراقص المولوي وحركة المخروط. ويظهر منها علاقة هذه الحركة بمخطط حركة الجيروسكوب في الرابطين السابقين. . غير أن هذه المرحلة من التجريب في مجال "العمل المركب" لم تَدُمْ طويلاً؛ إذ عُدْت بعدها للتجريب في مجال تخصصي الدقيق "الطباعة الفنية"، مع استمرار تأثير المرجعيَّتَين، التراثية والصوفية، على المسار الفكري لتجربتي بشكل عام؛ وهو ما ظهر أثره لاحقاً في عددٍ من مشاركاتي الجماعية بالعروض العامة، وكذلك في عدد من عروضي الخاصة، التي كان أحدثها معرض "إنشاء الدوائر: تحية لابن عربي"، المقام نهاية شهر مايو 2015. . http://www.artsgulf.com/625843.html . http://gate.ahram.org.eg/UI/Front/Inner.aspx?NewsContentID=667058 . .وقد يكون من المفيد في هذا السياق، أن نستعرض جانباً من المعلومات الأساسية، المتعلقة بطبيعة الأسطُرلاب وتطوره التاريخي؛ فهو – ببساطة – آلة رصد قديمة لتعيين ارتفاعات الأجرام السماوية، ومعرفة الوقت والجهات الأصلية. و"الأسطُرلاب" كلمة يونانية تتكون من شِقّين، هما: (اسطُر)، بمعنى النجم، و(لابون)، بمعنى المرآة. وبذلك يكون معنى الكلمة: "مرآة النجوم". وأول بداية لظهور الأسطُرلاب كانت عند اليونانيين القدماء، وبالتحديد في عصر "أبولونيوس" (قرابة 225 ق. م)، لكن الاستعمال العلمي الحقيقي، المبني على نظرية علمية، لم يظهر إلا مع "هيبارخوس" اليوناني، المولود في "نيقيا" في آسيا الصغرى حالياً "إزنيك" في تركيا وذلك قرابة عام 180 قبل الميلاد. وكان "هيبارخوس" مؤثراً في علم المثلثات، ويعتبر المؤسس الأول لعلم الأسطُرلاب. وجاء وصف الأسطُرلاب في بعض كتابات المصمم الروماني "فيتروفيوس" (88 26 ق. م)، عندما وصف ساعة أو أسطُرلاب كان قائماً في الأسكندرية، وذكر أن فيها: "حقل دائر من النجوم، وراء إطار من السلك، يشير لساعات اليوم". كما وُجِدَت إنشاءات مماثلة لما ذكر ذلك المصمم، تم التأريخ لها في القرون الثلاثة الأُوَّل من الميلاد، ووُجِدَ في شمال شرق فرنسا و"سالزبُرج" آلات مماثلة، ويُرَجّح أنها كانت منتشرة عند الرومان بكثرة. كما استخدم العالم الكبير "بطليموس" (150 م) الأسطُرلاب في أرصاده، وذُكر ذلك في كتابه "المجسطي". وفي العصور الوسطى بنى "سينيسيوس" من "سيرين" (378 430) شكلاً من أشكال الأسطُرلاب، سبق ظهور الأسطُرلابات الحقيقية في القرن السابع الميلادي. وفي العصر الإسلامي تطور علم الفلك وعلم الحِيَل الميكانيكا فكان العالم "محمد بن إبراهيم الفزاري"، المتوفى عام 180 هجرياً، أول من ألّف كتاباً في وصف الأسطُرلاب وصناعته واستعماله، وهو أول من صنع أسطُرلاباً في الإسلام. والأسطُرلاب الذي صنعه عبارة عن آلة فلكية رسم عليها قبة السماء، وقسّم عليها النجوم إلى مجموعات، ووضح عليها حركات النجوم والكواكب. وقد اهتم العلماء المسلمون بالأسطُرلاب اهتماماً كبيراً؛ لدوره الكبير في تحديد أوقات العبادة، واتجاه القبلة، والكسوف والخسوف، وكذلك دوره المهم في علم الفلك وصناعة الأزياج الفلكية، وتحديد المسافات والقياسات العلمية… إلخ. وقد ذكر "الفزاري" في كتابه "العمل بالأسطُرلاب" استعمالات الأسطُرلاب، فأوصلها ألفاً وسبعمائة وستين استعمالاً. وقد اهتم المسلمون كذلك بتطوير الأسطُرلاب ووصفه، ووصف كيفية استعماله، وتحديد أنواعه. وقد طور العالم "أبو أسحاق إبراهيم بن يحي النقاش الأندلسي" – المعروف ب"الزرقالي" – الأسطُرلاب؛ فصنع أسطُرلاباً مميزاً دقيقاً جداً، وسماه "صحيفة الزرقالة"، وأّلَّف كذلك "رسالة الزرقالة"، وهي مائة باب، ألّفها ل"المعتمد على الله محمد بن عباد"، وهي تحتوي على معلومات مهمة في صناعة صحيفة الزرقالة واستعمالها. وقد بقيت صحيفة الزرقالة مستخدمة عند المسلمين، وكذلك استخدمها الأوربيون في بداية النهضة الأوربية، حيث انتقلت إليهم من المسلمين عن طريق الأندلس في بداية القرن الثاني عشر الميلادي. وكان أشهر من استخدمها العالم الفلكي "نيكولاس كوبرنيكوس"، الذي اعتمد عليها في جميع أرصاده الفلكية. واعتبر الأوربيون الأسطُرلاب من أهم آلات الرصد الفلكية التي لايمكن الاستغناء عنها. واخترع "الحاسب" (المتوفي عام 250 ه) صحيفة أسماها "الصحيفة الآفاقية"، فكانت البداية للأسطُرلابات الشاملة، وتلاه العالم الأندلسي "علي بن خلف الشكاز" باختراع "صحيفة الشكازية". ثم جاء "الحسن بن باصة الأندلسي" فجمع مميزات الصفائح التي قبله في صحيفة واحدة، سمّاها "الصحيفة الجامعة لكل العروض"، إلى أن جاء "ابن السرّاج" فصنع أسطُرلاباً مطوراً، جمع فيه ميزات كل ما سبقه، معتمداً على صحيفة الشكازية، مقسماً إيّاه أربعة أقسام، لكل رُبع من الكون قسماً، وجعل فيه مقنطرات وصفائح. وقد استُعِمل هذا الأسطرلاب في جميع أنحاء العالم بخمسة استعمالات مختلفة، ولا يوجد منه حالياً إلا نسخة وحيدة، وُجِدَت مع العالم "الوفائي" مخترع آلة "المعدل"، وهي محفوظة بمتحف "بيناكي" بأثينا باليونان. واخترع العالم المسلم الكبير "شرف الدين المظفر بن محمد الطوسي" "الأسطُرلاب الخطي"، وفكرته تتلخص في إيجاد آلة رصد ثلاثية الأبعاد، وليست ثنائية الأبعاد كما كانت سابقاتها – فرسم الكون على صفيحة ثنائية الأبعاد – طولاً وعرضاً فقط – وأسقط خطاً مستقيماً على صفيحة ثنائية. وقد سُمي هذا الأسطُرلاب كذلك "عصا الطوسي". الدكتور "فؤاد سيزجين" بين مجموعة من نماذج الآلات الفلكية المتحركة والثابتة، المحفوظة بمعرض تاريخ الفلك العربي بمتحف فرانكفورت للعلوم. . و في وسط القرن الثالث عشر صُنِع الأسطُرلاب الدائري، ولكن استخدامه لم ينتشر إلا في بداية القرن العشرين في الدولة العثمانية. ولم يُصنع الأسطُرلاب فعلياً في أورُبّا إلا في بداية القرن السادس عشر الميلادي. واستمر الأسطُرلاب الآلة الأكثر شعبية في علم الفلك حتى عام 1650م، حيث تم تطوير ساعة البندول التي اخترعها سابقاً "ابن يونس" العالم المسلم، وكذلك اختُرِع التلسكوب عام 1608م من قِبَل "هانز لبيرشي" و"زَكَرايا ينسن"، وذلك عن طريق الصدفة، حينما كانا يعملان في صناعة النظارات، وكذلك اكتشف "جيمس ميتيوس" المنظار بالمصادفة، واخترع "جاليليو" منظاراً سمّاه التلكسوب، وذلك في عام 1610م، لكن الأسطُرلاب استمر يُنتَج ويُصنَع، على الرغم من ذلك، في العالم العربي حتى وقت قريب. وأنواع الأسطُرلاب الأساسية هي: "التام"، و"الهلالي"، و"ذات السمت"، و"الزرقالة"، و"العقربي"، و"الكروي"، و"عصا الطوسي"، و"ذات الأوتار". وفي العصر الحديث اختُرِع الأسطُرلاب الكهربائي، ومن ميزاته الرصد الكامل في صفحة واحدة بواسطة الكهرباء، وتسجيل الأرصاد تلقائياً، والحصول على صور متحركة لدراسة الظواهر الفلكية. كما اختُرِع التلسكوب الإلكتروني، فانتهى دور الأسطُرلاب التقليدي نهائياً، باستثناء القيمة العلمية التراثية والتاريخية، إضافةً إلى القيمة الجمالية الآسِرة، التي أراها قابلةً دوماً لإلهام الفنانين تجارب شديدة المعاصرة، وإن كانت ترتكز على أساسٍ من المرجعية التراثية.