من اجندتي الخاصة : وجلست افكر ..واتحسس علي تلك الايام ..وحتي ولو كانت صعبة ..وحتي ولو لم تكن هناك وسائل للرفاهية ..حيث لم نكن نملك أدواتها فلا كهرباء ولا طرق ممهدة ولا حتي سكك حديدية .. فالدولة اعتبرت بلاد النوبة الغريقة خارج نطاق الدولة .. فالجمارك والسكك الحديدية عند اسوان في الشلال ..وقرانا تقع جنوب الشلال وحتي وادي حلفا حيث جمارك السودان.. قرانا كانت متناثرة علي مساحة اربعمائة كيلو متر تقريبا ..بالمفهوم الاقتصادي الحديث كانت منطقتنا منطقة حرة ..ويبدو ان قناعات الدولة كانت تؤكد اننا كنا خارج نطاق الدولة ..الحياة كانت بسيطة واقتصاد القري كان قائما علي الزراعة وتربية المواشي ..التكافل كان سمة من سمات المجتمع النوبي ..فالكل كان يتألم لألم احد والكل كان يفرح لفرح احد .. جدي رحمه الله الذي كان يملك محلا تجاريا يبيع فيه كل شئ ..الاقمشة والاحذية ومواد البقالة والعطور والكيروسين وأقراص الريفو ومهمات الخياطة ..كانت تلك البضائع ترد الينا في قرية توشكي شرق علي متن بواخر نيلية كنا نطلق عليها (دلتا) بواخر كانت مخصصة لنقل البضائع وكانت بطيئة وحينما كانت تصل الي قريتنا كانت تفرغ البضائع الخاصة بتجار القرية في اي مكان علي جرف النيل حيث لم يكن هناك ميناء مخصص لتلك البواخر وتذهب تاركة تلك البضائع دون ان يقوموا بتسليمها الي صاحبها ولا ادري من الذي كان يوقع علي اذون التسليم .. واذكر ذات مرة وكنت جالس بجوار جدي أن جاء أحد ابناء القرية حاملا علي حماره بعض ما يخص جدي قائلا له (بضاعتك موجودة تحت يا شيخ إمام) اي بجوار النيل ..وفعلا ذهبنا أنا وخالي استجلبنا بقية الطرود علي دفعات .. لم يكن هناك أحد يفكر في الاستيلاء علي حق الغير .. ولماذا يفعل ذلك وهو في استطاعته الحصول علي ما يريده بالحلال من المحل حتي ولو لم يكن معه القروش اللازمة .. وحينما انتقلت من القاهرة إلى القرية للالتحاق الصف الثاني الابتدائي اختلفت المحاذير حيث كانت المحاذير في المدينة (خلي بالك لو حد قال لك تعال معايا ما تروحش معاه وخلي بالك وانت بتعدي الشارع وخلي بالك من الفلوس اللي معاك ) اما المحاذير في القرية فكانت متمحورة علي الابتعاد من النهر حتي لانغرق ..ففي النوبة لم نسمع عبارة (عيل تايه يا ولاد الحلال) ..الأمان المطلق وأيضا الأمانة المطلقة كانت متوفرة في النوبة الغريقة .. الأمانة الان موجودة في النوبة المستنسخة ولكنها ليست مطلقة …