بقلم أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن من أسباب الاختلاف بين القاعدة والتطبيق غياب المقام الذي قيل فيه الكلام ذكرنا أن اللغة كانت منطوقةً لفترات طويلة قبل الشروع في تدوينها بصورة منظمة وملموسة، وإبان عملية تدوين النصوص غاب بالطبع عن اللغويين والنحاة المقامُ الذي قيل فيه الكلام وموقف المتكلم والمستمع وهيئتهما وحركتهما…إلخ، فلما حدث أن بعض هذه التراكيب داخل النصوص تعارضت مع القواعد النحوية؛ لجأ النحاة إلى التوفيق بين التركيب وقواعدهم النحوية "، فالتأويل والتقدير والحذف والاستتار نتيجة واضحة من نتائج إهمال العنصر الاجتماعي في اللغة، وسلخ اللغة من الموقف الذي تقوم فيه الحركة والإشارة والنظرة، والانفعال والهدوء، وتغير الوجه، والنبر والتنغيم، وتضافر القرائن، وغير ذلك من ملابسات الحديث اللغوي بما لا يقوم به الكلام نفسه في الفهم والإفهام، وقد اعتمد النحاة على التأويل والتقدير في محاولة منهم لإكمال النص ذهنيًا بعد فقدان العنصر الاجتماعي الذي لا يفصل الحدث اللغوي عن موقفه "[1]. وقد تناول ابن جني هذه المسألة قائلًا:" فليت شعري إذا شاهد أبو عمرو وابن أبى إسحاق ويونس وعيسى ابن عمر، والخليل وسيبويه وأبو الحسن وأبو زيد وخلف الأحمر والأصمعي، ومن في الطبقة والوقت من علماء البلدين وجوه العرب فيما كانت تتعاطاه من كلامها، وتقصد له من أغراضها، ألا تستفيد بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤديه الحكايات، ولا تضبطه الروايات، فتضطر إلى مقصود العرب، وغوامض ما في أنفسها، حتى لو حلف منهم حالف على شيء دلته عليه إشارة لا عبارة، لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقًا فيه"[2]. مرور اللغة العربية بمراحل تطورية: ومن المعروف أن اللغة قد مرت بمراحل تطورية كثيرة أثر ذلك في حياة مفرداتها وبنيتها وتراكيبها "وأغلب الظن أن كثيرًا مما نجده في بطون الكتب القديمة وفي ثنايا النصوص من أمثلة نحوية وشواهد أدبية خارجة عن تلك القواعد التي وضعها النحاة، ثم التمسوا لها تخريجًا ما هو إلا بقايا من اللغة العربية في مراحلها الأولى قبل أن تتضح"[3]. ويقول الدكتور رمضان عبدالتواب رحمه الله: "إن اللغة كائن حي، لأنها تحيا على ألسنة المتكلمين بها، وهم من الأحياء، وهي تتطور، وتتغير بفعل الزمن، كما يتطور الكائن الحي، ويتغير، وهي تخضع لما يخضع له الكائن الحي في نشأته ونموه وتطوره. وهي ظاهرة اجتماعية تحيا في أحضان المجتمع. وتستمد كيانها منه، ومن عاداته وتقاليده وسلوك أفراده" [4]. وأثناء مراحل تطور اللغة حدث للغة العربية مجموعة من الظواهر؛ كالقلب المكاني، والحذف والزيادة والإلحاق، والتقديم والتأخير، والاستغناء، والتقارض… إلخ. [1] الضرورة الشعرية، لحماسة عبداللطيف، (ص 114). [2] الخصائص، لابن جني (1 /248). [3] البحث اللغوي عند العرب؛ لأحمد مختار عمر (ص64). [4] التطور اللغوي: مظاهره وعلله وقوانينه، لرمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1990م (ص9).