حيثُ باح البحرُ الحضور المائي في منحوتات جميل شفيق حينما صاغ عبقري النهضة الإيطالية "أليساندرو بوتيتشيللي" Alessandro Botticelli (1445 – 1510) رائعته التصويرية "خلْق فينوس من زَبَد المحيط" – والتي تُعرَف كذلك باسم "ميلاد فينوس" - بَدَت رَبّةُ الجمال والإغواء خجِلةً خَفِرةً على غير العادة، وقد استعاذت بخصلات شعرها النارية من فداحة عُريِها الغَضّ، فطَفِقَتْ تحجب بأطراف جدائلها الهفهافة مكمَن عِفَّتِها المُشتهاة، مُخفِيَةً بكَفِّ يُمناها ثَمَرَتي نهديها المُتَوَفِّزَين، فيما راح "زفيروس" الرقيق – معبود النسائم اللطيفة – يدفعها بأنفاسه صَوْب اليابسة، محمولةً على صَدَفةٍ، بِوَصْفِها أثمن لآلئ الخليقة، حيث تنظرها "منيرفا" الحكيمة، لتكسوها بثوبٍ ساترٍ مُجَلَّلٍ بأزاهير الغابة العذراء. كانت "فينوس" في لوحة "بوتيتشيللي" ابنة البحر، وثمرته، واللُقية التي انكشفت عنها أحشاؤه الكتومة أمام باصِرة المُعَلِّم النَهْضَوي العتيد، ليَجلو بها أسراراً طالما كَمَنَت في طبقاته المَوجيّة الهادرة بالعجائب. كانت "فينوس" – بمعنىً أوضح – هي ذروة (طَرح البحر) في هذه الحقبة الذهبية من النهضة الأوربية، ليظل البحر، على امتداد تاريخ الفن العالمي، وتعاقُب مدارسه وتياراته، موضوعاً أثيراً لكثرة من الأساطين المُعَلِّمين، شرقاً وغرباً، طالما عالجوه، تسجيلاً واستلهاماً ومُقارَبةً، واتكأوا على ذخيرته الهادرة من الأساطير والقصص والرموز، التي استقرت في رحم جميع الحضارات القديمة، وتَسَرَّبَت منها إلى شبكةٍ هائلة الامتداد، من النُظُم المعتقدية، ورُكام النصوص الإبداعية، وتأويلات العلوم الإنسانية، التي ما بَرِحَت تتداولها بالتحليل والتفسير والكشف، منذ مطلع القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة. وقد رسّخ "جميل شفيق" (مواليد 1938) لنفسه مكانةً مرصودة، سواءٌ بين مُجايليه، أو مَن سبقوه أو جاءوا في أعقابه، ممن مَلَك عليهم البحر أمرَ رؤاهم الإبداعية من فناني مصر، وهي مكانةٌ ظل "شفيق" يُوَطِّدُها بتؤدةٍ وأناة، عبر سنين طوال من العمل الدؤوب الشاق، ومواصلة العرض تلو العرض، حتى صارت (عوالِم الماء) لصيقةً به، وعلامةً دامغةً لعموم إنتاجه البصري العجائبي، الذي استمر من خلاله سابحاً بين شُطآنٍ مُخاتِلة، تُهَدهِدْه أحياناً على مُوَيجاتٍ حانيةٍ من التأمُّل الهادئ في أعماق النفس البشرية، وتستقبله أحياناً أخرى على صخورٍ صِلابٍ حِدادٍ من هواجس الرؤى الباطنية القلقة، وتقذفه آناً صوب أعماق معالجات الشكل، والتجريب من أجل استحضار أسرار الكائنات من ظواهر صُوَرِها البسيطة، عَبْر قاموسٍ شديد الخصوصية، اشتُقَّت مفرداته من حضور الرجل والمرأة، باعتبارهما المُحَرِّضَين الفاعلَين في صميم الصورة وموضوعها معاً، لتُجاوِبْهما نغماتٌ أساسية من توليفات الكيانات السَمَكية، وانسيابات الحضور المَوجي، وجموح خيل البحر والبر الرافع عقيرته بصهيلٍ نَشوانٍ لا يعرف للحنين ارتواءً. وخلال هذه الرحلة العارمة المُضنِية من الإنتاج الإبداعي الحثيث، ظل "شفيق" مُخلِصاً لخامته الأثيرة، الحِبر الصيني، ومفتوناً بأداتِه الأرشق، سن الريشة المعدنية، مُسجلاً بهما على الورق فرائد رؤاه، وحصائد حرثه لأعماق الماء الخالد المَرّةَ تلو المَرّة، حتى صار الماء مرآةً مَجلُوَّة أمام شعاع بصيرته الإبداعية، ليرتطم به، فيلتَمِعُ على سطوحه المُتموِّجة المتكسرة آناً، وليدلِف بهدوءٍ إلى باطنه آناءً أُخرى، ليعود فيرتَدّ على عقبيه أمام عيني مُتَلَقّيه، وقد اكتسى هيئةً غير تلك التي كان عليها في مُبتدأ أمره؛ ذاك أن "جميل شفيق" من أولئك النفر من المبدعين، الذين يحتل (التجويد)، ومتابعة المعالجة للموضوع الأثير مكانةً مركزية في صميم عوالمهم الإبداعية. وهو، بهذا المفهوم، يُعَدُّ واحداً من أقدر الفنانين الذين امتلكوا ناصية إدهاش متابعيهم، من حيث قدرتهم على مواصلة تطوير الرؤية الحافلة، اعتماداً على مفرداتٍ قد تبدو محدودةً للوهلة الأولى، فإذا به وقد نَضى عنها إطار المحدودية الضيق، وفتح أمامها آفاق الإدهاش وسماوات النضارة البصرية. غير أن "جميل شفيق" يُطِلُّ علينا هذه المَرّة بِوَصْفِه (نحّاتاً)، مزيحاً عن أنامله رهافة الريشة المُخربِشة على استحياء، مُستَبدِلاً إياها بالأزاميل والمطارق، ليباغتنا بلُقيةٍ جديدة من لُقياته المائية، لا تتوقف فقط عند حدود استلهام عوالم هذا الرحم البدئي الهائل، بل تتحقق فيها - (مادةً) وموضوعاً – شروط اللُقية البحرية و(الطَرْحة) النهرية؛ ذاك أن "جميل شفيق" قد جَبَل منحوتاته تلك من مجموعةٍ من الأخشاب، قذف بها الماءُ بين يديه في مناسباتٍ شتّى، ربما يكون هو قد تتَبَّعها قصداً في مواضع التقاءٍ لليابسة بالماء، وربما يكون قد اعتمد في التقاطها على حَدْسٍ باطنيٍّ، تكَوَّن لديه من طول تَمَرُّسِهِ باستقراء كتاب الماء السِرِّيّ، وإدامة التأمُّل في رموزه المُطَلْسَمة، التي نادراً ما تبوح بِسِرِّها إلا لمن تصطفيه من عشاقها المُدَلَّهين. وإذا ب"جميل شفيق"، وقد أظهر – عَبْر منحوتاته تلك – لياقة مدهشة، على استحضار المتحرك من الساكن؛ فإذا بتوليفةٍ من العِصِيّ المُستَدِقّة المستقيمة، وقد التأمَت معاً، لتدبّ فيها حرارة الحركة على حين فجأةٍ، نتيجة لفتةِ رأسٍ لماعزٍ رشيق، أو لخطوةٍ إلى الأمام يخطوها قطُّ متوَجِّس، أو إطلالةٍ مندهشة يُطِلُّها جوادٌ يخجلُ أن يبوح بجموح مشاعره. لم يَعْمَد "جميل شفيق" في طروحاته النحتية المائية تلك إلى ابتزاز حاستنا النحتية، فهو لم يغامر بنا في تراكيب حركيةٍ معقدة، ولم يصارع الخامة ليقهرها سعياً إلى توليفات قشريّةٍ من التنويع الملمسي الزائف، ولم يتقعر في تكديس الرموز، ولا في الاسترسال السردي دون داعٍ منطقي. إنه – ببساطةٍ – أراد أن يحترم خصوصية خامته الفريدة؛ فظل محافظاً على (أثر الماء) في نسيجها الخشبي المشبّع بذكريات الموج، وآثر أن يكون لحضور التآكُل، والتَحاتِّ، والنحْر المائي أثرٌ ماثلٌ على أبدان منحوتاته أمام ناظرَي متلقّيه، ليظل الحضور المائي ماثلاً على الدوام في تجربته تلك، الفريدة بكل المقاييس، حتى لا ننسى، أن ما يطرحه علينا من ثمار قريحته النحتية الغضة، ما هو إلا (طرح بحر)، طالما أخلص للارتماء في أحضان أمواجه الزاخرة بالرؤى والصور، فكان حقيقاً بأن يؤثِرَه البحر بلُقيَاته، وأن يبوح في خاطره بأسرارٍ قد ضَنِّ بها على كثيرين قبله. المعرض تستضيفه قاعة جاليري مصر في الفترة من 1 : 14 ديسمبر2013