النص: وتحط على شرفة ذاكرتي يمامة تطرق نافذة الشوق المعبأ في قوارير الوقت المعتقة تتكسر قارورة ، ينداح التوق ألملم ذاتي.. أستر عري مخيلتي العذراء إلا .. من صور، وصوت هديل يناجي في الانثى فتختال الغواية غير عابئة بشرفات شرعتها رياح تشرين وهبوب من شمال فكت ضفائرها فتنتي وتركت لتشرين العبث في خصلاتها فض بكارة الشوق فارتعشت قارورة أخرى تراقصت على الارض نشوى فانهمر رذاذ الوصل ودارت فيها الدنيا طاف الكون بلفتها أضحت بؤرة أمست كعبة العشاق وقِبلة نساك التماهي اشربوا نخب الوصال من دموع انتحابي يا كل المقهورين بالوجد المصلوبين على بندول الساعة لا تحدقوا كثيرا ولا تنتظروا اتركوا للحنين مسافة لا تستمطروه ولا تصلّوا لاستسقاء غيثه فعندما تسوقه رياح الوله سينهمر سيلا وسيكسر كل القوارير المعتقة لا تستعجلوه فتفسدوا طقوس الجوى وتبددوا هالة السحر التي تهبه هذا الالق واتركوني تحت اردية حرير يغازل الفرح في مقلتيهث يلامس بانامله الرقيقة شف ثوبي ويستشعر نعومة ظلي فيقتات على حلم يراود مخيلة اثقلتها بالوهم الصور !! ........ القراءة : ===== الغواية...أو الهداية الرّوحيّة والشّعريّة... بين سكرة الحنين وصحوة الواقع.. الغواية هي للقصيدة عنوان، وللشّعر أصل لم يذكره جهابذة التّنظير الشّعريّ، لكنّهم في " ضمائرهم.." أقرّوه وتواضعوا على اعتباره من مقوّمات " عمود الشّعر.." إن لم يكن اتّباعا للسّبل المسطورة ونسجا على المنوال وسيرا في الطريق الشّعريّة " المستقيمة.." لذلك يعتبر الضّلال الشّعريّ والخروج والتّيه والعدول و"الإتيان بما لم تستطعه الأوائل.." من أمارات الفحولة الشّعريّة..ومن ظلّ شاعرا وضلّ، فقد اهتدى، ومن اهتدى فقد ضلّ سبيل الإبداع... وحين وسمت الشّاعرة نصّها بعبارة " الغواية.." فقد وجدت في مملكة الشّعر موطأ قدم، واهتدت، وهي من الغاويات الواقعات في غواية الشّعر وغواية عالم غير مرئيّ ( ونعم الغواية..)، إلى سبيل التّميّز والجدّة والحدوث والحداثة في الشعر... بيد أنّ للغواية في السّياق الحافّ بإنتاج هذا النّصّ معنى خاصّا لا صلة له بما يبدر من الذّهن من المعاني "الشيطانيّة" المكرّسة معجميّا، وإن كان للشّعر في التصور الإلهاميّ الأسطوريّ شياطينه الكامنون وراء كلّ عبقريّة شعريّة.، يغوون الشعراء، فيهيمون في أودية العشق والشوق والتوق...ومنشأ التّوتّر الإغوائيّ في هذا النص هو الذّاكرة الفرديّة وما يترسّب فيها من حوادث وصور، هي من حيث الزّمان منقضية منقطعة غائبة، ومن حيث الوعي كامنة ثاوية في قعر الذّاكرة، قارّة ساكنة، وقد تبدو منسيّة، أو أرادت لها صاحبتها أن تكون نسيا منسيّا، عزوفا عنها أو تحرّرا وانصرافا عنها إلى ما قد يكون، أو يبدو ذا صلة أوثق بالوجود.. فالنّصّ بهذا الفهم العامّ موقف ومعركة في عمق الكيان بين سلطان الماضي وتحكّمه الإغوائي الشّبقيّ من جهة، وإرادة الحاضر أو الوعي ونزوعه إلى قطع صلة الذّكرى والحنين والخيال والحلم من جهة مقابلة... وهو، أي النص، بهذا الوجه حركة لصراع وجدانيّ رمزيّ انتخبت له الشاعرة جملة من العناصر ذات الإيحاء " الدراميّ " الحادّ، فبنت حركة درامية ناشئة ومتنامية وآيلة إلى حيث أرادت لها صاحبتها..إجابة عن أسئلة حارقة متّصلة بمنزلة الفرد بين الحلم والواقع أو الماضي والحاضر أو التذكّر والنسيان ..وهي أسئلة قديمة جديدة أبدا..تغوي وتغري بالكتابة فيها، فيفشل في طرقها شاعر التّرف فيقدم تجربة مفتعلة باهتة، ويتألق شاعر التّجربة والخبرة، فيبني كونه الذي يراه ويأخذك إليه..وفي بناء هذا النّص من السّمات ما يعكس ثراء فنّيّيّا وفكريّا وروحيّا.. 1...نشأة الغواية...أول الغيّ قطر.. تنشأ الحركة في هذا النص منشأ سرديّا، فيطرأ العنصر القادح والمخرج لذات الشاعرة من حال السّكون أو الكمون إلى حال التوتّر والانفعال، خضوعا إلى منطق الفعل والانفعال أو ردّ الفعل : وتحط على شرفة ذاكرتي يمامة تطرق نافذة الشوق المعبأ في قوارير الوقت المعتقة.. وفي هذا المنشأ من العناصر الفنّيّة ما يكثّف الإيحاء، ويشكّل لوحة محسوسة العناصر ( شرفة، نافذة، يمامة، تحط، معبّأة، قوارير..) معقولة المعنى، لا تقول لك بقدر ما تدعوك إلى أن تقول ما ترى، أو يتراءى لك من المعاني..فتتبيّن أنّ إطار الحركة هو الذاكرة والعنصر الخارجيّ المحرّك للذّكرى السّاكنة (يمامة..) ولك أن تذهب إلى ما يتيحه لك خيالك وتسعفك به أدواتك التأويلية من دلالات..ولكنّك لا بدّ واقف على صورة هي بؤرة إيحاء جوهريّة في هذا النّص: الشوق... المعبأ في قوارير الوقت المعتقة.. وفي هذا التصوير علاقة بين الغواية والشوق الذي يراد له أن يظل " مستقرا " حبيس القوارير..خمرا معتّقة عتيقة عاتقا مختومة، تحفظ في أقبية الذّاكرة، لا يزيدها الظلام والزمان إلا تعتّقا وغلاء وإغراء وإغواء..هو الشوق القديم يكمن فلا يذكر ولا ينسى، وإنّما هو في قرار الذاكرة، يعيش في النفس، وتعيش به وكأنه ليس فيها، وهو يملؤها في شفافيّة وهشاشة يشي بهما الزّجاج في النّافذة والقارورة..ولولا هذه الهشاشة لما كانت الاستجابة لعنصر الإغواء : تتكسّر قارورة ينداح التوق ألملم ذاتي أستر عري مخيلتي العذراء إلا من صور وصوت هديل ... يناجي في الأنثى فتختال الغواية غير عابئة بشرفات شرعتها رياح تشرين وهبوب من شمال... وفي معنى المطاوعة (تتكسّر..) ما يؤكّد قوة الإغواء وسرعة الانغواء..وما المغوي سوى صوت عجيب فعّال " صوت هديل.." لا نعلم مأتاه لكنّنا نستشعر سحره وأثره وعلاقته بالشوق موضوعا وذاتا طارئة على الشاعرة، خارجة من الماضي، حيّة حاضرة ماثلة.. وتقترن الاستجابة بضرب من " المقاومة " الضّعيفة بل المصطنعة، لأنّ في النّفس هوى " أنثويّا " يتحوّل في النّصّ موردا فنّيّا تستقي منه الشّاعرة عناصر غاذية للطاقة التّعبيريّة الشعريّة، فتتجلّى حال شبقيّة، ليست الموضوع أو المقصود، بل حاملا فنّيّا وفعاليّة من فعاليات التعبير الشعريّ الإيحائيّ..فتتبدّى مظاهر " استسلام" لذيذ وخضوع مراد ونزوع إلى "الإثم" ولامبالاة بدواعي الصّدّ الواهية الواهنة، وتمرّد على عقل لا يقوى على غزو للكيان يلقاة الكيان راغبا ..تلك هي سلطة " الصّوت" المخترق للسكون، وللحصاة المحرّكة للبركة الشّاخصة..فتنتصر الغواية وتتحكّم و"تختال غير عابئة.." بمن ينكر أو يأبى.. 2...بؤرة الغواية..إذا متّ ضمآن فلا نزل القطر... تتنامى الحركة الدرامية الشعريّة في هذا النص تناميا هرميّا، فتبلغ ذروة تتملّك فيها الذّات الشاعرة موضوع شوقها، وتصيب منه ما ينقلها من حال الضمإ والحاجة إلى حال الارتواء والإشباع، بل السّكر يتعتع واللذّة تهزّ الكيان هزّا، فيرتعش وانتشاء : فكّت ضفائرها فتنتي وتركت لتشرين العبث في خصلاتها فضّ بكارة الشّوق فارتعشت قارورة أخرى تراقصت على الأرض نشوى فانهمر رذاذ الوصل ودارت فيها الدنيا... وما هذا المشهد الشّبقي سوى صورة رمزيّة مركّبة للشّوق المكبوت السّجين ينطلق ويتحرّر، فيجد موضوعه، فيصله..ولم تجد الشاعرة خيرا من هذه الصورة الحسّيّة تعبيرا عن الفيض الرّوحي الغامر والنّور الباهر النّازل مع " الصّوت " العجيب..: " انهمر رذاذ الوصل..." تلك هي البؤرة التي يتكثّف فيها النّور، وعليها يتركّز النّظر، لتكون التّجربة الحسّيّة الشّبقيّة حاملا شعريّا لتجربة روحيّة عميقة ضاربة في الكيان، متعلّقة بالمعنى والجوهر والإنسان ماهية ومصيرا، وبالحبّ افتتانا واشتياقا وانجذابا وعطشا قديما، يبدو الجسد له صورة، وليس هو المراد بها بل الروح هي الكعبة والقصد.. 3... الغواية...المنقذ من الضّلال..الاهتداء إلى سبيل النّسك تبلغ حركة النص في هذا الموضع طورا تخرج فيه من حيّز الفرديّة إلى فضاء الكونيّة، ومن التحسّس إلى الاهتداء، ومن لهفة البحث ورجفة الوصل واللقاء إلى برد اليقين وامتلاء الروح ، فيجد المقدّس في " المدنّس" خير ما يعبّر عنه ويكون له رمزا مركّبا ذا طاقة إيحائيّة هائلة..وللصّوفيّ نشوة وسكرة لا يجاريه فيها أحد، وهو في ذلك أنموذج ومثل..ولذلك تسلك الشاعرة سبيل كبار العشاق النّسّاك طارقة باب الكونيّة والمطلق والحقّ والحبّ الأصل لكلّ حبّ : طاف الكون بلفتها أضحت بؤرة أمست كعبة العشاق وقِبلة نساك التماهي... 4...الغواية الوصيّة... وحين تكتمل مقوّمات التّجربة، وتبلغ الرّوح سؤلها، وتنفتح لها أبواب مغلّقة، وتنبثق أنوار ساطعة، تتحوّل الشاعرة من موقع الإرادة إلى موقع الإمامة والقيادة والعرفان والعلم، فتستنهض وتغري وتغوي ليسلك العالم طريقها ويعتنق طريقتها، فتوصي " .. المقهورين بالوجد... المصلوبين على بندول الساعة.." أي أولئك الذين هم مثلما هي كانت : حاملة صليب العشق، معانية الم الوجد، تائقة منتظرة مصلّية من أجل الوصل العظيم المحرّر المخلّص من عذابات الزّمن الأخرس السّاكن : الوصال اشربوا نخب من دموع انتحابي يا كل المقهورين بالوجد المصلوبين على بندول الساعة لا تحدقوا كثيرا ولا تنتظروا اتركوا للحنين مسافة لا تستمطروه ولا تصلّوا لاستسقاء غيثه فعندما تسوقه رياح الوله سينهمر سيلا وسيكسر كل القوارير المعتقة لا تستعجلوه فتفسدوا طقوس الجوى وتبددوا هالة السحر التي تهبه هذا الألق... وفي هذا المقطع تستعيد تجربة خاضتها، وتؤسّس منها وعليها مذهبا وقواعد وطقوسا، فتعدّد الوصايا، وتهدي إلى السبيل، وتدعو إلى احترام الأوان والصّبر على الألم والمكابدة، وتبشّر بالفيض والألق القادم حين " تسوقه رياح الوله...".. وفي ذلك ما فيه من وعد وتزيين وتحبيب وترغيب وإغواء جميل، وإغراء بعظائم التّجارب، تلك التي ترفع عن وضاعة المنازل وصغائر الأمور... 5...الغواية..الفرح والحلم الحقّ وحين تتمّ للنّاس طريقتها، وتفرغ من تمهيد الطريق و "شرح " الطريقة، تعود لتحيا نشوتها وفرحها وسكرة روحها، وتحتفي بغوايتها العظمى الخلاّقة الفتوح الهادية إلى مسالك الرّشد والفرح والنشوة الأبديّة المتعالية على نشوة اللحظة والزمان: واتركوني تحت اردية من حرير يغازل الفرح في مقلتيه يلامس بأنامله الرقيقة شف ثوبي ويستشعر نعومة ظلي فيقتات على حلم يراود مخيلة أثقلتها بالوهم الصور !! وهكذا تكون قد جعلت الشعر " يحترف الغواية.." وركبت " إثم الكلام.." ولم تشأ غير الرشاد والهداية وصلاح الروح..فاصطنعت عالما للغواية والإغراء بمغامرة روحية إطارها الأرض يتوق منها الإنسان إلى السّماء..فيكون له ما يريد لأنه مريد...