توجهت بحرص شديد نحو خزانة ملابسي.. أخرجت منها تلك العلبة التي تحمل سري علبة قطيفة زرقاء قديمة، تحمل الشارة ، نعم.. شارة حمراء.. تمنيت كثيرا أن أضعها على صدري، فالشارة كلمة السر لفتح الأبواب المغلقة، وكأن الجميع يحترمونني لأني أضع مثل هذه الشارة، أبذل قصارى جهدي حتى تكون من نصيبي في كل شهر، فهي العلامة التي تظهرني أمهر الجميع، بالرغم من إصابتي الأخيرة التي أضاعت مني أكثر من درس، إلا أني حاولت أن ألم بهذه الدروس التي فاتتني بمساعدة مدرساتي وزميلاتي، اقترب العد التنازلي من موعد الإمتحانات، زاد سهري وكدي وبذلت جهدا مضاعفا، لا أتصور نفسي وقد تراجعت عن ترتيبي وكلما طاف هذا الهاجس بنفسي ازددت إصرارا وتصميما.. جاء يوم النتيجة وكانت سعادتي لا توصف عندما نادتني المديرة وسط طابور الصباح لتعلق على صدري نيشان التفوق. أسير بالمدرسة مزهوة بنفسي، وكأنني أملك الدنيا بأسرها، فسقف أحلامي تلك الشارة الحمراء، عندما عدت إلي المنزل كانت سعادة أمي بالغة، احتفت بي احتفاء زاد من ثقتي بنفسي، ومع عودة والدي ومعرفته بالخبر كان لي نصيب الأسد من الهدايا، وزيادة المصروف والحلوى والنزهات الأسبوعية التي أفوز فيها معه بطبق من الأرز باللبن، أوبطبق من المهلبية بالقرفة والمكسرات. إلا أنني اليوم لا أشعر بهذا التقدير، دخلت فاطمة زميلتي في العمل، وراحت تقوم بحركات إنسيابية بهلوانية كأنها مهرج في البلاط الملكي، والمدير لم يملك نفسه من الضحك، ثم رمت عليه الصباح وحته .. فأصبح كما يقولون ميت فل وأربعتاشر.. لا أدري لماذا هذا الرقم بالذات ليعبر عن الحالة القصوى للمزاج السليم أو دائما يقولون مزاجه عنب، ربما لأن العنب يفسد بسرعة شأنه في هذا شأن المزاج ؟! ربما.. حقيقة لا أدري.. أخرجت فاطمة علبة قطيفة زرقاء ظننتها في البداية علبتي القطيفة التي بها الشارة ولكني لمحت فيها خاتما ذهبيا. لمعت عينا المدير وخرجت فاطمة من المكتب وقرار ترقيتها في يدها، بينما اكتفى المدير بالنسبة لي بأنه لا توجد درجات خالية، وانكب على العمل مرة أخرى، دون أن ينظر إلي، وكأنني شخص غير مرغوب في وجوده، وأدركت أن شارتي لم يعد لها وجود لقد ظهرت شارات أخرى لها الأهمية والسبق، ووجدت فاطمة تضحك بملأ فيها وهى ترطن ببعض الكلمات وكأنها سقراط يعلم تلامذته. -العلم الذي تعلمناه في المدارس شيء، والحياة شيء آخر مختلف تماما، كانت تضغط على كل حرف من أحرف كلمتها الأخيرة كأنها أودعتها كل ما أوتيت من خبرة طوال شهر عمل والحاذق صاحب أكبر نيشان في الحياة. ساعتها فقط أدركت أن شارتي ستظل حبيسة علبتها القطيفة أطل عليها من حين لآخر لأنه لم يعد هناك مكان لمثل هذه الشارة الحمراء فلم تعد إلا تحفة قديمة عفا عليها الزمن. ***** من مجموعة طعم الذكريات عن دار الطلائع