ثلاثمئة عام مضت على ولادة هذا الكاتب والفيلسوف الكبير جان جاك روسو الذي ولد في 28 حزيران عام 1712، الكاتب الدائم التجدد على مرِّ العصور. إن روسو عام 2012 نجم يلمع، هادفٌ وحاضرٌ أكثر من ذي قبل... لن تستطيعوا الهروب منه. هذا العام ليس فقط احتفالاً بذكرى روسو ولكنه تسونامي يجتاح العالم. فقد بدأت جنيف, مدينة روسو الأم منذ عدة سنوات بالتحضير لهذا الاحتفال, من خلال المعارض, والحصص الدراسية, والمحاضرات, والعروض, ضمن برنامج «روسو للجميع». وستشارك أيضاً مدن «شامبيري» و«غرونوبل» و«باريس»، إضافة إلى إصدارات الكتب والبرامج التلفزيونية, وسلسلة من التحضيرات على جميع الصعد. سنستحضر من كل الزوايا حياة ابن صانع الساعات، الذي عمل ناسخاً للمقطوعات الموسيقية، المعلم والحالم، الصديق والعدو للفلاسفة في عصره، وبطل الثورة الفرنسية، حتى لو لم يعترف هو بذلك، عظيم الفلسفة السياسية أو بكلمة واحدة، عظيم الفلسفة والأدب مجتمعين. رجل العدالة قبل هذا الخلط بين الحماسة المحتملة والطقوس المفروضة, وقبل أن نرى كيف حاك روسو أعماله ومعرفته، علينا أن نسأل: ماهي الموضوعات التي استهوتنا لدى روسو حتى وقتنا الحاضر، ولماذا يحاكينا هذا العمل أكثر من ذاك؟ الجواب ينتج عن ثلاثة تفرعات, وثلاث عقد أساسية, حيث تتصالب أو حتى إنها تنتسج فيما بينها بدقة, لتقدم لنا فرادة هذا الفيلسوف الذي أصبح شغلنا الشاغل في هذا الزمن. الفرع الأول سياسي. عندما يتفاقم لدى المواطنين الشعور بأنهم مسلوبو الحق في اتخاذ قراراتٍ كبيرة تخصهم في الوطن، فلم لا يعيرون انتباههم للمفكرين الذين يبدؤون أولاً بالحديث عن الشعب ويعطونه تسمية «الشعب السيد» ؟ وعندما يتنامى الشعور بعدم المساواة في الأجور بطريقة تفوق التصور، كيف لا نعود إلى فكرة روسو في العدالة، ليطالب المواطنون بألا تكون الأرض وثمارها ملكاً لشخص، بل للجميع سواسية؟ المساواة والشمولية إن روسو بلا شك هو فيلسوف العدالة، أكثر من أي فيلسوف آخر. لأنه لم يُسعَد أبداً بأن يُشَاد به على أنه مثاليٌّ، لكنه بهذا يؤكد لنا الفكرة على الفور كحقيقة أولية، كمعطيات أساسية لا نستطيع أن نتغاضى عنها. إذا كان العالم غير متساوٍ، فبرأي روسو، هذا ليس إلا تشويهاً لن يستمر. فالبناء الذي يحوي دوداً في أساساته محكوم عليه بالانهيار. عندما نسمع هذا الكلام في وقتنا الحاضر, يصبح لطيفاً على مسامعنا شيئاً فشيئاً ويطيب خواطر الكثير من الناس. ولأن فرادة روسو كانت بربطه العدالة بالشمولية، فلم يكن يحتمل أياً من الفلاسفة الذين ينشدون حقائق زائفة عالمياً تجعل من الظلم الاجتماعي, والنفوذ الاعتباطي, والاتفاقيات المزعومة ملائماً لهم. هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم مفكرين, ليسوا بالنسبة له سوى متشدقين, ومحتالين, وممثلين. فما يهمّ، في وقتنا أيضاً أكثر من أي وقت مضى، هو الأصالة والصدق النابع من القلب. حيث يرى في كل مواطن الأساس الوحيد للسلطة الشعبية. روسو بلا منازع هو المفكر الأكثر قدرة على تنظيم الصفوف, للسير نحو الديمقراطية بسهولة ومباشَرة، نحو التسيير الذاتي والاحتجاجات الشعبية. لن نعرف الآن إذا ماكان باستطاعته احتلال «وول ستريت» أو «بويترا ديل سول»، لكن من السهل أن نعرف أنه كان قادراً على جعل من هو غير جدير اكتشاف أسباب عدم جدارته بنفسه. الحديث النابع من القلب لقد تفرّد هذا الفيلسوف واختلف عن الجميع قبل التقدم العلمي والفكري. وصدقوا عندما قالوا منذ زمن طويل وإلى يومنا هذا: كلما أصبح الإنسان أكثر إدراكاً, يتطور ويصبح أفضل، لأنه عندما يتجهز على نحو أفضل, سيصبح أكثر تحرراً. لكن روسو، من خلال العذابات التي لا يفتأ عصرنا التخبط فيها، اكتشف بأن العكس هو الصحيح: «إن زيادة المعرفة لاتجعلنا بالضرورة أكثر إنسانية. فالعلوم لا تمنع البربرية ولا الإنسانية. والمزيد من الراحة والقدرة أو حتى الصحة الجيدة لا تولد تلقائياً المزيد من العدالة أو التضامن. السبب هو شيء واحد غير هذا كله، هو القلب». يقول روسو: «أنا أكون بقلبي». بينما يقول بقية الفلاسفة منذ القِدَم، ليكون الإنسان يجب أن يكون منطقاً وضميراً وجسداً أو نفساً. بالنسبة إلى روسو القلب هو المكان الذي نتكلم منه مباشرة، فهو صوت الطبيعة. منه نستطيع سماع الكلام الصافي للعواطف العفوية والفورية. قبل أي شيء تأتي «الرأفة», أي التعاطف مع آلام الآخرين. هذه الحميّة التي تدفعنا مباشرة ومن دون تفكير لتقديم يد العون لهؤلاء الذين يتشاركون معنا آلام الحياة نفسها. إن الإنسان ذا «الطبيعة البشرية»، بالنسبة لروسو، لا يسيء أبداً فهم ما يمليه عليه قلبه. فقط الإنسان المحوّر الذي انحرف عن هذه الطبيعة البشرية, هو من يقيّد ويخنق هذا الصوت في داخله, وينتهي ليصبح شديد اللامبالاة والأنانية . سياسة المساواة، وتيقظه أمام التقنيات الحديثة واعتناقه لمبدأ العاطفة، هذه التفرعات الثلاثة التي انتقيناها للحديث عن روسو اليوم, ليست المناحي الوحيدة التي تحدد حضوره الحيّ بيننا. هذه الذكرى الثلاثمئة لروسو هي إهداء لشبابنا المعاصر, لأن روسو لم يكف يوماً عن الإصرار على قدرة المشاعر الإنسانية التي لا تنضب. يكفيهم أن يفهموا بأن سنة 2012 لن تكون سنة روسو شكلاً فقط, وإنما ستتخللها أيضاً قضايا جوهرية تخص فيلسوفاً أنجبه لنا عصره, ليبقى حياً في عصرنا. عن مجلة: لوبوان