فى أحد أيام شهر أغسطس عام 1996م توجهت أنا وزوجتى وإبنتى الرضيعة " همسة " إلى مدينة بورسعيد لحضور فعاليات بينالى بورسعيد القومى الثالث للفنون التشكيلية كفنان مشارك ، فوجدتها فرصة لأقضى بضعة أيام أنا وأسرتى فى المدينة التى أعشقها كغالبية المصريين لمكانتها الرفيعة فى الوجدان الشعبى .. وعندما وصل الأتوبيس الذى يقلنا إلى مشارف المدينة ، نزلنا للمرور بمنفذ التفتيش المختص بتسجيل بعض الأغراض الثمينة لدواعى جمركية كانت سائدة آنذاك لكون بورسعيد منطقة حرة .. وبعد ذلك وقفنا خارج المنفذ لنبحث عن تاكسى ينقلنا إلى أقرب فندق .. وفجأة توقفت أمامى سيارة ملاكى ، قبل أن ينزل منها سائقها مقبلاً علينا بملامح طيبة وابتسامة لافتة قائلاً بلهجة بورسعيدية مألوفة " إتفضلوا أوصلكوا للمكان اللى انتوا عايزينه " ، ثم أصر على حمل حقائبنا بنفسه ووضعها فى الحقيبة الخلفية للسيارة .. وهنا أخذتنى الدهشة ، ثم عدت لتوازنى بسرعة ، حيث كنت قد زرت بعض المدن داخل وخارج مصر ، ووجدت فيها بعض أصحاب السيارات الملاكى يستخدمونها كتاكسى لزيادة دخولهم ، وهذا أمر مقبول لدى كثيرين .. وسارت السيارة تطوى شوارع المدينة ونحن بداخلها يحفنا الصمت ، بينما تملكتنى الحيرة من أمر هذا البورسعيدى ، وسألت نفسى .. ماذا أفعل معه ؟ هل هو حقاً يفعل هذا لطبيعته السلوكية النبيلة ؟ أم أنه يستخدم سيارته لجلب الرزق ؟ بيد أنه قطع الطريق على أسئلتى الباحثة عن إجابة عندما شرعت فى محاسبته على أجرة المشوار بعد وصولنا للفندق الذى اختاره هو لنا ، فتعجب قائلاً بلهجة ملؤها العتاب " عيب ياأستاذ !! أنا وصلتك لما شفتك غريب عن البلد ومعاك زوجة وطفلة رضيعة " ؛ فزادت حيرتى واختلطت بذهولى ، لكن هذا لم يلهنى عن شكره على رقى تصرفه ، رغم أن الشكر حينذاك لم يكن كافياً ، حيث أحسست أن بورسعيد تفتح لى ذراعيها بكل شهامة أهلها وناسها الطيبين ، وهو ماحفر فى وجدانى بئراً ممتلئاً بدموع الحنين المستمر لهذه البقعة المنيرة من أرض مصر ، خاصة أن بها بعضاً من أصدقائى المبدعين ، مثل الأديب الكبير قاسم مسعد عليوة ، والفنانين التشكيليين عباس الطرابيلى وعاطف زرمبة وسعيد القطان ، وآخرين من النجوم اللامعة التى أنجبتها بورسعيد ، لذا فعندما حدثت المجزرة فى استاد المدينة بعد مباراة الأهلى والمصرى فى الأول من فبراير الحالى ، إندفعت من عيونى دموع الغضب من بقايا وكراكيب نظام فاسد تليق به هذه الجريمة الخسيسة التى تعد امتداداً لسلسلة من جرائمه المشينة فى حق الشعب المصرى ، حيث عز عليه أن يرى الوطن ينتفض ويتطهر من دنسه الذى استمر لأكثر من ثلاثة عقود ، وفى نفس الوقت أيقنت أن تلك المصيدة الدنيئة لاتنتمى إطلاقاً لأخلاقيات أهل بورسعيد الذين شقوا لأنفسهم أخدوداً فى الذاكرة الشعبية المصرية ، بعد دورهم فى مقاومة الإنجليز على خط القناه قبل رحيلهم عام 1954م ، ثم بطولاتهم الأسطورية فى مقاومة الإنجليز والفرنسيين إبان العدوان الثلاثى على مصر عام 1956م بعد تأميم قناة السويس ، والذى كان بمشاركة إسرائيلية معهودة وموالاة أمريكية خبيثة ، وفى أقل من شهرين كان المعتدون يرحلون وهم يجرون أذيال الخيبة بعد أن لقنوا درساً على أرض بورسعيد لم يبارح ذاكرتهم حتى اليوم .. وبالطبع كان هذا الإنتصار بتكاتف كل المصريين ، وعلى رأسهم شعب بورسعيد بشبابه ورجاله ونسائه وشيوخه وأطفاله الذين انخرطوا فى حرب شعبية شرسة ضد عدو متعجرف ، ليستشهد ويشوه منهم الكثير ، وفى هذا المقام لم ولن ننسى محمد مهران أحد رموز المقاومة المصرية على الإطلاق .. بورسعيد هى من سحقت على شواطئها المدمرة الإسرائيلية إيلات فى أكتوبر عام 1967م مع مطالع حرب الإستنزاف التى توجت بانتصار أكتوبر 1973م ، وقد دفعوا ثمناً باهظاً بالتهجير من بيوتهم هم وشعبا السويس والإسماعيلية ، مقابل تجاوز تلك الفترة الزمنية الحرجة من تاريخ مصر ، علاوة على دورهم البارز فى ثورة 25 يناير 2012م ، لذا فلا يجب أن نحمّل مناضلى بور سعيد الشرفاء تبعات الجريمة التى ارتكبها بلطجية مبارك فى إستادهم الرياضى ، ذلك الفضاء البهيج الذى استمتعنا من خلاله منذ طفولتنا المبكرة بفنون كرة القدم عبر أقدام ورؤوس حفنة من النجوم ، مثل التفهنى والسنجأ ومسعد نور وإينو وجمال جودة وطارق سليمان ، علاوة على سابقيهم من عمالقة اللعبة ، مثل السيد الضظوى ومحمد أبو حباجة ومحمد بدوى ، وغيرهم ممن كانوا ومازالوا يتحلون بالأخلاق الرياضية والبورسعيدية فى آن ، ولم يعرفوا قط أخلاق النظام الفاسد السابق الذى حاول إلصاق مخططه الوضيع بشعب أصيل ومدينة مجاهدة كلما هلت على خاطرى الآن ، سالت من عينى دموع الغضب والحنين . المصدر : جريدة نهضة مصر _ صفحة فنون جميلة _ الخميس 9 / 2 / 2012م