22 يونيو نظر دعوى إنهاء قيد منتصر الزيات من نقابة المحامين    البورصة المصرية تختتم بارتفاع جماعي لكافة المؤشرات وربخ 9 مليارات جنيه    وزير الخارجية الإسباني: الاعتراف بفلسطين هو السبيل الوحيد للسلام    أقل من 100 شاحنة لا تكفي.. الهلال الأحمر يكشف المعاناة داخل قطاع غزة    ضبط 93 كيلو مخدرات و 225 قطعه سلاح ابيض خلال حملة بالبحر الاحمر    حريق هائل يلتهم مخزن «للتبن» بالشرقية    إصابه 5 أشخاص في حادث تصادم على الطريق الإقليمي بالمنوفية    بعد تراجع إيراداته.. «نجوم الساحل» يواجه شبح مغادرة دور العرض    5 سنوات على مقتل جورج فلوريد.. نيويورك تايمز: ترامب يرسى نهجا جديدا لخطاب العنصرية    مصر تهنيء الأردن بمناسبة الاحتفال بذكرى يوم الاستقلال    مصرع 14 شخصا وإصابة أكثر من 50 بسبب سوء الأحوال الجوية فى باكستان    مصدر باتحاد الكرة ل في الجول: طولان يدرس إقامة معسكر في يونيو.. وثنائي محترف بالمنتخب    الزمالك يستعيد محترفه أمام فاركو    الأهلي يحتفي بذكرى تتويجه بلقب دوري أبطال أفريقيا للمرة ال 12    تقارير: الهلال السعودي يحدد موعد سفره إلى أمريكا.. ويترك القائمة للمدرب الجديد    نائب رئيس الوزراء: زيادة موازنة الصحة ل406 مليارات جنيه من 34 مليار فقط    الهيئة العربية للاستثمار توقّع مذكرة تفاهم مع شركة أمريكية لدعم التحول الرقمي في الزراعة    النواب يوافق نهائيا على مشروع تعديل قانون مجلس الشيوخ    مواصلة الجهود الأمنية لتحقيق الأمن ومواجهة كافة أشكال الخروج على القانون    فلكيًا.. غرة شهر ذي الحجة 1446ه وأول أيامه    جدول مواعيد الصلاة في محافظات مصر غداً الاثنين 26 مايو 2025    يوسف القعيد يكشف عن رأيه في إغلاق بيوت الثقافة المستأجرة    تامر حسني يحذر جمهوره من حفلة وهمية مع «الشامي»    قريبا.. انطلاق برنامج "كلام في العلم" على القناة الأولى    لجنة تصوير الأفلام تضع مصر على خريطة السينما العالمية    يسبب السكتة القلبية.. تناول الموز في هذه الحالة خطر على القلب    كوارث وصدامات وخسارة فلوس.. تحذر من حدث فلكي يغير في حياة 4 أبراج للأسوأ    تفاصيل إطلاق المرحلة الجديدة من اختبار "الجين الرياضي" وتسليم عينات "جينوم الرياضيين"    محافظ دمياط يستقبل نائب وزير الصحة ووفد حقوق الإنسان لبحث الخدمات الصحية والاجتماعية    ميرور: إيزي وميتوما ولياو على رادار بايرن لتعويض فشل صفقة فيرتز    رئيس لجنة الحكام يكشف رؤيته حول تقنية الفيديو واستقلالية اللجنة    رئيس البرلمان العربى يهنئ قادة مجلس التعاون الخليجى بذكرى التأسيس    بالدموع تحرك جثمان سلطان القراء إلى المسجد استعدادا لتشيع جثمانه بالدقهلية.. صور    محافظ بني سويف يلتقي وفد المجلس القومي لحقوق الإنسان    تأييد حكم المؤبد لموظف قتل شخصا بسلاح ناري بالعبور    المجلس الصحي المصري: 4 من كل 5 أمراض حديثة من أصل حيواني    وكيل صحة المنوفية يتفقد مستشفى تلا المركزي ويوجّه بإحالة المتغيبين لتحقيق    الصحة العالمية تشيد بإطلاق مصر الدلائل الإرشادية للتدخلات الطبية البيطرية    عيد الأضحى 2025.. هل تصح الأضحية بخروف ليس له قرن أو شاه؟ «الإفتاء» تجيب    فور ظهورها.. رابط نتيجة الشهادة الإعدادية الأزهرية بالاسم ورقم الجلوس 2025 الترم الثاني    «بني سويف الأهلية» تناقش مشروعات طلاب المحاسبة والتمويل الدولي.. والجامعة: نُعد كوادر قادرة على المنافسة العالمية    محمود فوزى يؤكد: الإِشراف القضائى على الانتخابات لازال قائما ولم يتم إلغاؤه    صلاح يترقب لحظة تاريخية في حفل تتويج ليفربول بالدوري الإنجليزي    خطوة بخطوة.. إزاي تختار الأضحية الصح؟| شاهد    الاحتلال الإسرائيلي يقتحم عدة قرى وبلدات في محافظة رام الله والبيرة    الكشف عن مبنى أثري نادر من القرن السادس الميلادي وجداريات قبطية فريدة بأسيوط    وزير الخارجية يتوجه لمدريد للمشاركة فى اجتماع وزارى بشأن القضية الفلسطينية    شوبير: من حق بيراميدز اللجوء للمحكمة الرياضية لتعليق إعلان بطل الدوري    ميلاد هلال ذو الحجة وهذا موعد وقفة عرفات 2025 الثلاثاء المقبل    محافظ الشرقية: 566 ألف طن قمح موردة حتى الآن    ارتفاع أسعار البيض في الأسواق اليوم 25-5-2025 (موقع رسمي)    بعد افتتاح الوزير.. كل ما تريد معرفته عن مصنع بسكويت سيتي فودز بسوهاج    استقرار سعر الريال السعودي في بداية تعاملات اليوم 25 مايو 2025    "آل مكتوم العالمية": طلاب الأزهر يواصلون تقديم إسهامات مؤثرة في قصة نجاح تحدي القراءة العربي    استعدادًا لعيد الأضحى.. «زراعة البحر الأحمر» تعلن توفير خراف حية بسعر 220 جنيهًا للكيلو قائم    «الداخلية»: ضبط 15 قضية مخدرات في حملات بأسوان ودمياط    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 25-5-2025 في محافظة قنا    ما هو ثواب ذبح الأضحية والطريقة المثلى لتوزيعها.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية ... أنشودة العريش ... الحلقة الأولى
نشر في شموس يوم 15 - 02 - 2013


الجزء الأول: عندما تنعب الغربان ...
-1-
عندما كانت الغربان تنعب فوق رأسي، في المقبرة، كانت عفونة جثتي تتصاعد باضطراد، محذرة ذاك التابوت اللانهائي، من كارثة أكبر من الطوفان، ومن فقدي، ومن رحيل القُبَرة.
كانت الغربان تنعب فوق رأسي، رأسي المثقلة بالصرخات المكبوتة، فلم يكن أمامي سوى أن أتمنى أن يكون لرائحتي، أثر تنبيهي أقوى من النيكوتين، على أدمغة اللامبالين، الباحثين عن الموت بشتى الطرق، وهواة تربية الغربان، وأولئك الذين ألهموني قصة الخلاص، والتي طالب فيها بطلها الفيلسوف الغاضب، الحكومة بتوفير حظيرة لكل مائة مواطن، وتصدير عدد من الرؤوس إلى الخارج، لحل المشكلات الإقتصادية، فخرج الناس في مظاهرات حاشدة، للتنديد باسمي، والمطالبة بإعدامي شنقا في ساحة عامة، وقد أرسل إليّ رسالة يقول فيها: هل عز عليك أن تجعلنا نباع في سوق النخاسين، وآثرت أن يتم تصديرنا كال......؟، وخطر لي أن بلوغ هؤلاء مرحلة الإدمان الآسر، سيكون مفيدا من أجل تحسين نمط حياتهم، ولكن ليس للدرجة التي تجعلهم يفكرون في نبش قبري، والمطالبة بتقسيم رفاتي بين سكان الأرض، هذا الانتهاك لحرمتي لن يرضيني، وسيجعلني أغضب بطريقة ما، وقد يكون له أثر مدمر على هذا الكوكب المحتضر، إذا علم سكان الكواكب الأخرى، والتي زرتها في رحلاتي العجيبة، بهذا الإعتداء الأكثر سفورا، من وجوه ملآى بالعورات، تتخفى خلف أقنعة من الذهب.
الغربان تنعب فوق رأسي، ولأن على الميت أن يتدبر أموره بنفسه هذه الأيام، كان نواحي على نفسي قد بلغ مرحلة متقدمة من الإتقان، والتي تسميها الخبيرات في إحدى الكواكب، التي لم تتأثر بلا إنسانية كوكبنا، بالمرحلة (برما ريشي ساسوسو)، أو المرحلة الإعجازية القاتلة، وفق بعض المراجع، كانت هذه المرحلة مثالا نظريا بحتا لم يبلغه أحد في تاريخ الكائنات في الكواكب الأخرى، والبشرية أيضا، ولم يحاول أحد من الموهوبين بلوغها، إلى أن جاء القرن الحادي والعشرين، لتحقق البشرية على حنجرتي، هذه المعجزة، وأرجو ألا يصل هذا الخبر إلى الكواكب الأخرى، فأنا لست مستعدا، لإقامة أية دورة تدريبية للخبيرات، ولا مخيم صيفي للصغار، هكذا قلت في حسم، وكنت منهمكا في صقل مهارتي، لأشعر أمام نفسي بالفخر والزهو وشيء آخر غامض، لدرجة أصابتني بالقشعريرة، شعرت وكأن الموتى قد سكبوا عليّ شيئا يوازي إلقاء الورود على المحتفى بهم في دار الفناء والرذائل، ومع أن هذا الشعور جالب للفرح، إلا أنني لم ألوّح لهم بكلتا يديّ، ولم أقبّل أطراف أصابعي لأنثر قبلاتي لهم عبر الأثير، ولكن هذا لا يصيب نجوميتي بأي أذى، فيما يبدو، فأنا- وبلا فخر- أختلف عن جميع النجوم، في أنني تسلقت المجد على سُلّم من دخان.
لم تكن دموعي تتساقط، مع أنني أشعر بها مكدسة في كل خلايا جسمي، لست مبالغا، فلماذا كنت أنوح بتلقائية إذن؟؛ كامرأة عاشت ملايين السنين في خضم الفجائع، مع أنني لن أفارق نفسي، كل الأدلة تشير بأنها ستمكث معي إلى أبد الآبدين، مفارقو الميت هم من ينوحون، وأنا الميت، لا أنوح لأنني سأفارق الأحياء أو أفارق نفسي، لا، الأمر يتعلق بشيء غامض في وفاتي فقط، إنه سر في كواليس عقلي الباطن ينتظر دوره في المشهد قبل الأخير، ولذلك تركتُ للسر أن يرتجل أي عبارة يريد، لأن الكلمة الحاسمة في المشهد الأخير، ستكون لملك الموت، الذي سيصافحني بحرارة، وبما أنني نجم لي بريقي الخاص، فإنني أوصي المهتمين فقط بأن تكون الكاميرات بالعدد المناسب، لأخذ اللقطات التذكارية، فلابد أن تغمرني الأضواء وأنا أصافح ملك الموت.
-2-
كان مشهد الغروب يحمل أقصى طاقة تعبيرية له، الشمس أشبه بقشرة برتقالة خرافية، ولمن لم يذوقوا طعم الموت، سيرونها موحشة جدا هذه المقبرة، والتي بعثت إليّ نداءا خاصا فهمته فور وصوله إليّ، أو ربما قبل أن يصل، أو ربما التقينا أنا وهو في منتصف الطريق، ربما انطلقتُ بسرعة أكبر من سرعة الصوت نفسه، فربما كنت في تلك اللحظات، شكلا من أشكال الطاقة.
صارت كئيبة جدا تلك الغابة السوداء المحيطة بمدينة الموتى، لا كإحاطة القيد بالأسير، بل كإحاطة الأسطورة بالمنتصر، لاشك أن حريقا هائلا قد شب فيها ملأ السماء بسحب سوداء من الدخان، الحاقدون لا يريدون للأموات أن يُحاطوا بالخضرة، مع أنهم أكثر من يستحق ذلك، أو ربما اشتعلت الغابة من تلقاء نفسها، لتذكّر المشيعين بجحيم الحياة، ولكني أتيت وحدي، ففاتت أقاربي هذه التذكرة.
الظلام يزحف نحو المكان بسرعة كجيوش التتار، كأن به رغبة جامحة لعناق الخفافيش؛ الخفافيش التي تخفق بأجنحتها كالذباب أمام عيني، بطريقة احتفائية، احتفاء لا بأس به بشخص كان عضوا مؤسسا في جمعية الليل البهيم، وحين نسينا أسماءنا وأسماء آبائنا وقبائلنا في عملية غامضة، تسمّينا بأسماء من وحي تجاربنا، واعتبرنا الخفاش والدنا، وانتسبنا إلى الليل، فكان اسمي ذو الجراح بن الخفاش الليلي.
مصاصو الدماء يأتون مع الخفافيش والليل، ويكرهون الشمس، هكذا يقول المتخصصون في علم الداركيولا، إذن، هم على مقربة مني، ربما كانوا يحتفلون على طريقتهم الخاصة، فقد رأيت بالونات سوداء تتساقط ببطء، تحركها ريح هادئة، كحفيف أقدام على سلم الآخرة.
كنت أسير بخطى منتظمة، نحو منتصف المقبرة، ربما كنت أود أن أكون في مركز حقيقة الوجود، أو مركز ثقل الوجود، هكذا يمكن للمرء أن يتخيل، كنت منضبطا، محاولا بقدر الإمكان ألا أحيد عن الإيقاع، إيقاع أغنية الترحيب، بم بم بم، كدوي قنابل عنقودية، صوت الأورغن أشبه بقهقهة كائن خرافي وجهه مليء بالتصاوير، تصاوير شخوص تحدق في صنم من الجمر، على قاعدة شمعية، صوت مغنية الموتى شجيا؛ كأنفاس شجاع في لحظة حاسمة، الإنسجام والدفء في صوت الكورس العظيم، يبشران بمعاملة كريمة سأحظى بها بينهم، آهاتهم الحزينة كأنها حسرات على الأيام التي قضيتها بعيدا عنهم، وكأن صوت المزمار القربي الشجي، بساطا أسير عليه، وحين بلغت منتصف المقبرة، بدأت أفكر في طريقة أنغمس بها في هذا الخضم، عليّ أن أفرح بشدة، فثمة برج ينهار خلف المقبرة.
-3-
وفجأة، تذكرت حال البؤساء في بلادنا، من سيأخذ حقهم بعد رحيلي، من بين أضراس التماسيح؟، والذين سعدنا بهم يوما ما، وتذكرت البيان الصادر عبر المذياع، بأن الحكم في البلاد قد آل إلى جماعة تخشى الله، لقد تربعت حركة القبضة الإسلامية(حقا) على عرش البلاد، وتغير كل شيء، وصار الانضمام إلى حزب الرفاه والبنين الذي أنشأته الحركة، من مكملات الإيمان، وكان شعار الحزب المرفوع عاليا، يقول بأننا سنبلغ رفاهية لم يشهدها العالم من قبل، رفاهية تؤثر حتى على جيناتنا، لدرجة أن حمل المرأة في بلادنا، لن يستغرق أكثر من ثلاثة أشهر، وستمتلأ بلادنا بالبنين، وستكون لدينا قوة بشرية أعظم من التتار، فمضت السنوات والحال يتحسن حينا ويسوء حينا، والسبب في ذلك كما قالوا لنا، دول البغي والعدوان، التي لم تدع قادتنا ليحققوا أول إنجاز عظيم، وهو مشروع الإبرة الطاهرة، لقد أزعج قادتنا استيراد الإبر التي نخيط بها أكفاننا، من دول كافرة، فمن المفروض أن تكون الملابس التي يذهب بها المرء إلى الدار الآخرة، مخيطة بإبرة طاهرة، لقد كانوا جادين، وضعوا حجر الأساس في منطقة صحراوية، ولم يتبق سوى مباني المصنع وأجهزته، إن تأخر المشروع، يرجع إلى الاستهداف الخارجي، وليس إلى أمير المؤمنين ورفاقه الطاهرين.
كانت الدول العظمى تسخر منا وتسمي بلدنا ب( داركستان)، وقد تبنت حكومة حزب الرفاه والبنين هذا الاسم، وفرحت به جدا، واتخذت منه دليلا على استهداف الدول العظمى لمشروعها الإسلامي الطموح، وإن قيام الليل الذي يسخرون منه، هو شرف المؤمن، فعلى الشعب أن يفخر بأن حكامه من فرسان الليل وصوّام النهار، وطلبت من الامم المتحدة الاعتراف بالاسم والعلم الجديدين، وكان العلم الجديد، عبارة عن قطعة سوداء، على يمينها مائدة محاطة بأغصان الزيتون، وعلى اليسار، عظمان متصالبان، وجمجمة مخيفة، وليكون العلم مختلفا عن شعار القراصنة، جعلوا حنك الجمجمة إلى أعلى، وقد تم تفسير العلم في النشيد الجديد، بأن معناه الحياة للكرام البررة والموت للكفرة الفجرة.
كان الاحتفال بتغيير اسم البلاد بهيجا، غنى مطرب المؤمنين بأغنياته الشجية ورقصت الراقصات الإيمانيات مستقبلات القبلة، وتحدث الإمام الأعظم، مرشد الحكومة، الشيخ مجدد الدين المهاجري، الذي أشاد بالاسم الجديد، من باب ( والحق ما شهدت به الأعداء)، وأكد بأنهم لن يتخلوا عن قيام الليل أبدا، واستدل بعدة آثار، وذكر بيت شعر لإيليا أبو ماضي الذي كان معجبا بهذه الخصلة- كما قال- رغم أنه مسيحي، وكان بيت الشعر من قصيدة وطن النجوم:
لليل فيك مصليا للصبح فيك مؤذنا.
وكنا في تلك الأيام نكبر ونهلل طوال الوقت، إذا رأينا مسؤولا أو إذا دخل المسؤول أو خرج، وإذا تكلم أو صمت، ووصلنا إلى مرحلة كنا نعرف فيها ما يدور في بيوت الزوجية، من خلال التكبير والتهليل، وكانت نبرة الصوت تعطي الصورة الكاملة، وقد أوصانا الإمام الأعظم، بأن نهلل ونكبر حتى أثناء تناول الطعام، بحيث إذا تأكدنا من وصول اللقمة بسلام إلى المرئ، واتجهدت دون عائق، إلى الإثني عشر.
كل شيء قد تغير عندما أقال الرئيس الإمام الأعظم، من وظيفته كمرشد، لأن الإمام صار يتخطى كل السلطات، ويتصرف كنبي، مما أدى إلى مشكلات عديدة أهلكت البلاد، فانشق الإمام الأعظم من الحزب ومعه ثلة من تلاميذه الأوفياء، وأسسوا حزبا جديدا، سموه حزب الرفاه والبنين والبنات، ولأن الشعب بلا ذاكرة، تقبّل هذا الحزب الجديد بصدر رحب، ورفع قادته فوق الأعناق، وكأن المُعارض صديق الشعب، وكل من يقف ضد الحكومة هو المُخلّص الذي يجب ألا يشك أحد في سلامة نيته وغيرته على الشأن العام، ووفقا لهذه العقيدة السياسية، تم العفو عن رجل تسبب في كوارث رهيبة مات من إثرها عدد ليس بالقليل؛ حين وقف في وجه الحكومة، وهتف الناس باسمه، يحيا البطل، وبلغ الناس فيه من الغلو، لدرجة أن امرأة كانت في لحظة طلق لم تجد من تستغيث به من الوجع غير ذاك الرجل، لقد صار الرجل يتحدث في كل شيء، ويسخر من كل شيء تقوم به الحكومة، وقد فضح حتى وزارة الإرشاد الديني نفسها، في الصفقة المعروفة بصفقة الأباريق، حيث زعمت الوزارة بأنها استوردت أباريق بملغ مليار دولار، حتى يتوضأ المصلين بارتياح، وفضح الفساد باسم قيام الليل، فقد كان المبلغ الذي صُرف في القهوة التي تساعد على السهر، في شهر مارس، نصف مليار دولار فقط لاغير، لكن ذلك الرجل أعادته الحكومة في منصب رفيع، فعاد الشعب إلى لعنه مرة أخرى.
من الأسباب التي جعلت الإمام الأعظم يضيف "البنات" إلى اسم حزبه، هو الإهتمام العالمي بقضايا المرأة، فأصدر الإمام كتابا عن مكانة المرأة التي لا يستطيع أن يصفها، ووقف وقفة لا تنسى في موضوع ختان الإناث، بل إنه قال حتى أعضاء المرأة الخاصة ليست بعورة، وأفتى بجواز أن تُصلي المرأة عارية بالرجال، وأنه لا داعي لفصل الجنسين في الصلاة، وقد كان لهذه الفتاوى الأثر الكبير في بلد أجنبي، فقد تم بناء مسجد يحمل اسم الإمام الأعظم مجدد الدين المهاجري، وتم اختيار حسناء ممشوقة القوام لتؤم المصلين، فصار المسجد قبلة للمصلين، لدرجة أنه ما عاد يسع الناس، وقد مات عدد من الرجال أثناء المزاحمة في الصف الأول، ليزداد خشوعهم بمتابعة "الإمامة"، وقد اجتهد المشايخ في مسألة الزحام على الصف الأول، فخرجوا بحل عبقري، وهو ضرورة وجود شاشات كبيرة في المسجد، تبث للناس حركات الإمامة بوضوح بتقنية HD، لكن هذا لم يحل المسألة، فكان التزاحم في دخول المسجد نفسه، مات عدد من الرجال على الأبواب، بعد ذلك أصدروا قرارا بأن يكون الدخول إلى المسجد بتذكرة باهظة الثمن، وقد حققت صلاة الجماعة دخلا لا يمكن تصوره، لدرجة أن لجنة المسجد قررت أن تستعين بحسناوات محترفات من دول أخرى، وفق المعايير الجمالية، وإن كن غير مسلمات فيمكن أسلمتهن لهذا الغرض، لكن عدد المصلين لم يقل، فصارت الصلاة بعد ذلك، في ملاعب كرة القدم.
-4-
تذكرت كل ذلك وأنا في المقبرة، وأعادتني نغمة انبعثت من الأورغن إلى ذلك الزمن العجيب، كانت البلاد في حالة نفرة عامة، كان كل شيء يخدم الروح الوطنية، حتى الغناء الذي كان حكرا على الحبيبة، الحبيبة التي علّمها نزار قباني أنْ لو إذا سُئلت لماذا قصّت شعرها الطويل أن تقول: بأن من يحبه يحبه قصيرا، كانت الأناشيد الوطنية تحرك كل طاقتنا نحو حب الوطن، وكانت الروح الدينية في قمة برجها المقدس، كانت كل أنفاسنا تُسمى جهادا، وكان المتخلفون عن الجهاد يُروّضون أشواقهم بمتابعة الصور الآتية من أرض المعركة، كان أخي وعدد من الشباب هناك، يعيشون أجمل أيامهم كما يقولون في رسائلهم، ومع أن البلاد كانت في ضائقة، إلا أن الحياة كانت حلوة، هنالك هدف يجمع كل الشعب ويجعل كل عسير يهون، كنا كالشعب الكوري الشمالي، نستمد بقاءنا لا من الطعام والشراب، بل من عدائنا لأمريكا وأذرعها، وكانت قيادتنا مُلهمة مثل كيم إيل سونغ، كنا فرحين لأننا عدنا إلى جذورنا الإسلامية، وكنا نرى أن باستطاعتنا هزيمة العالم، كنا واثقين من ذلك، كثقة آبائنا في انتصار الجيوش العربية بقيادة عبد الناصر، في حرب النكسة، ولأننا نرى أن عهد النبوة قد عاد، كنا نعيش الماضي والحاضر والمستقبل، كان المجاهدون يبتسمون أمام الموت، كانت وجوههم مرآة لقلوبهم الوردية، حين تراهم ينشدون تقول بأنهم ليسوا على حافة الموت، بل على شاطئ نهر النيل يمضون إجازة السنة، يتمتعون بمباهج شرم الشيخ أو يشاهدون جمال العريش، فينشدون فيه الأناشيد، كان لأخي صوت جميل، وكنا نسمعه في التلفاز يتغنى بأشعار سيد قطب ورفاقه، وكانت أنشودة "أخي" تفعل في نفسي ما لم يفعله صوت الرشاش في المجاهدين، كنت أرى أنني في يوم ما سأكون بينهم، لأقول معهم لدول البغي التي تدعم كل من يريد البلد بالشر:
فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نستذل ولن نستباح
وحتى بعد أن تغيّر كل شيء، وانطفأت الجذوة في القلوب، وفضح الزمان الأقنعة، وصارت الحياة بالنسبة لنا رقصا في ساحة الجمر على أبطأ إيقاع عرفه الوجود، مازال أخي يُسمعني مقطعا من الأنشودة في المنام، إذا كنت في أيامي التي يخنقني فيها الظلام:
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
فاطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد
وكنت أرد عليه بإجابات مختصرة، إلى أن جاءت مرحلتي النفسية الأشد سوداوية فقلت له:
-" لا تعرف ماذا حدث بعدك، لقد نُكّست الرايات، وقد صنع البعض منها حفاضات لأطفالهم، وفق فتوى لأحدهم تقول بأن مُخرجات الرضيع ليست نجسة، والأرض التي صعدت منها روحك الطاهرة، هي الآن بارٌ كبير، والأجواء التي تعبّقت بأنفاسكم هي الآن سكرى من أنفاس الذين ورثوا الأرض من بعدكم، ولم يكتف سادتنا بظلامنا فقط، بل استوردوا كل الظلام من عالمنا و من العالم السفلي أيضا، لدرجة أن العالم السفلي صار مضيئا الآن، وهذا ما يفسر هجرة الأعداد الهائلة لمصاصي الدماء إلى أرضنا، في كل ثانية، لقد صار الظلام الذي نعيش فيه هو المقياس العالمي المعروف بالظلام النوعي، وهو أهم إنجاز للفيزياء النظرية، منذ نظرية النسبية لأنشتاين".
ومنذ ذلك اليوم لم أر أخي في المنام، حين أذهب إليه سأسأله عن رأيه فيما قلت، خطر لي ذات مرة أنه لم يأتني في المنام لأنه يقوم بإجراءات العودة إلى الحياة، ربما هي إجراءات معقدة ولذلك لم يجد فرصة لزيارة خاطفة، في مرحلة النوم التي تسمى"ريم"، حيث تمارس العين حركتها السريعة، كطقس جالب للأحلام، وتخيلت أخي وقد عاد يمشي بين الناس، يطوف المدن ويشاهد مثلنا التلفاز، ويسألنا عن أناشيدهم، فنخبره بأن مشاهدتها تتم فقط في اليوتيوب، ويسألنا عن الشيوخ الذين أناروا دربهم، فنخبره عنهم فيغمى عليه، ونخبره بأن الإمام الأعظم وبعد أن سُحب الكرسي من تحته، في لعبة كنّا نقوم بها عندما كنا صغارا، فنضحك من سقطة الغافل، ولم يكن الغافل ليملك شيئا إلا أن يبيّت النية ليردها علينا، إن استطاع، اللعبة يعرفها أخي جيدا، ومارسها عندما كان في دار الجهل والرعونة، ولذلك لن أشرحها له، سأخبره بأن الإمام الأعظم قد قال بعد ذلك، أن الذي قُمتم به ليس جهادا، وليس هنالك حور عين في الجنة، وليس هنالك، وليس هنالك، ولم يبق سوى أن يقول:" ليس هنالك إله والحياة مادة ولا رجعة لنا بعد الموت"، وربما قدُر أخي قد أتى به ليسمعها من فم الإمام الأعظم، فيقسم أنه لن يبقى ثانية واحدة، وبما أنني قد أسديت إليه معروفا بأن جعلته ينظر إلى كل العورات، فسيأخذني من يدي إلى الأعالي، تاركا أمي تدعو على من كان السبب، وقد كانت في تلك الأيام الخوالي تخشى أن أتأثر بالأناشيد الجهادية فألحق بأخي، أذكر أننا في ذات يوم كنا نشاهد التلفاز، فسمعنا أخي يردد أنشودة ، فنظرت أمي إليّ وبكت عندما ردد:
أخي إن نمت نلق أحبابنا فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود.
-5-
كان أخي مرهف الحس، وكان يحب ابنة الجيران منذ الطفولة، ولم يكن ينام إلا بعد أن يضع الورقة والقلم والشمعة وأعواد الثقاب تحت وسادته، تحسبا لأي خاطرة أو بيت شعر قد يأتي بلا استئذان في الليل، وكنت قد اكتشفت ذات اليوم صندوق البريد الخاص بهما، إنه ثقب في جذع شجرة قرب بيت جيراننا، وقتها عرفت أين تذهب تلك الأوراق، فلو أنه يبقيها في بيتنا، لما وجدنا مكانا ننام عليه، وربما كان بيتنا أشبه بالسجل المدني قبل الأرشفة الإلكترونية، حاولت أن أفهمه بأساليب ملتوية أنني عرفت سره، فحاول أن يرضيني بوعود كثيرة: ذهاب إلى الحديقة، ألعاب نارية، حلوى لا يأكلها إلا أبناء الأكابر، إلى الآخر. قلت له إن الناس يقولون أنك أكثر أبناء الحي أدبا واحتراما، قال لي:" وماذا فعلت؟ فقط أكتب لها الشعر وهي تصححه لي، أنا لم أكتب فيها وحدها، هنالك قصائد كتبتها في إخوانها وأمها وأبيها"، قلت:" ولماذا لم تكتب فيّ أنا؟"، رفع حاجبيه واضطرب، وقام نحوي، فتح عيني اليمنى بسبابة وإبهام يمناه، ثم أغلقها ثم فتحها، ثم فتح الأخرى وأغلقها ثم قال لي: افتح فمك، فتحت فمي، كنت مندهشا جدا، أمسك بعرق في يدي اليسرى كمن يريد أن يقيس النبض، ثم ضربني على كتفي ثم قال:" هل تعاني من أي شيء؟ حمى، إسهال أو ما شابه؟"، قلت:" لا، لماذا؟"، لم يرد عليّ، وأمسك بقلمه وأخذ يكتب سريعا، ومد إليّ الورقة قائلا:" هذه هي قصيدتك"، وكان مطلعها يقول:
حبيبي ابن أمي فداك العيون من القلب مني إليك اللحون
وبعد أن كبرنا كنت أذكّره بذلك وأضحك، لم يكن يضحك معي، بل يحاول أن يغيّر مجرى الحديث، وحتى بعد أن خطب تلك البنت خطبة رسمية، لم يكن يقابلها لوحدها، في تلك الأيام كان المجتمع محافظا، لم نصل المرحلة التي يرد فيها الأب على المكالمات الواردة من عشاق ابنته، إن كانت ابنته في الحمام تستعد للخروج إليهم، بعد منتصف الليل.
وبعد أن غادر أخي إلى الجهاد، لم يعد يرسل لها القصائد، مع أنني أعرف أنه مازال يحبها، لست أعرف كيف كبح هؤلاء الشباب جموحهم؟، كيف روضوا أنفسهم؟، كيف تساموا على بشريتهم فصاروا ملائكة في الأرض، وحين يكتب رسالة لأمي، كان يوصيها على ملكته، ويطلب منها أن تغمرها بالحنان، وأن تتجلد أمامها، حتى لا تزيد من قلقها، أذكر أنه كتب إلى أمي ذات مرة يقول: (أمي الغالية الصابرة، تحية ملء الأرض والسماء أزفها إليك من هنا وأنا بين الأشجار، أتمتع بجو رائع، إننا في فصل الخريف، ومع أن البعوض كثير، إلا أننا علّمناه كيف ينصت إلينا بدل طنينه الفارغ، أراك تضحكين يا أمي، هكذا أريد أن تكوني، قولي لقلبك الفسيح أن يطمئن، إنني يا أمي أعيش حياة لم أعشها من قبل، أعرف أنني قد أموت في أي لحظة، لكنني أرى أن ما ينتظرني هناك أجمل مما تركت خلفي، وإذا كنتم ترون أنني تركت دراستي، ولحقت بالمجاهدين، فإن المعرفة التي هناك أسمى، وإن كنتم ترون أنني لم أتزوج، فإن الحور العين في انتظاري، وإنه لفخر لي أن أكون من طلائع الإسلام التي تدحر قوى الشر والعدوان في العالم، إنهم قد يفوقوننا بالعتاد، ولكن الإيمان أقوى سلاح عرفته البشرية، وقد انتصرنا في بدر وكنا أقل عددا وعتادا، وكذلك في معاركنا الدائرة الآن، فكل معركة لنا بدر، إن شاء الله، إننا في كل معركة نتخيل بأننا سندفن في البقيع بجوار الصحابة، ولذلك تسمعين في أناشيدنا كلمات رقيقة نوجهها إليهم، ونرى في كل معركة عريش رسول الله خلفنا، تصلنا منه التعليمات، ونراه رافعا يديه يدعو لنا بالنصر، بالأمس رأيتك في المنام، كنت تشاهدينني في التلفاز وتبكين، كنت ألقي أنشودة العريش التي كتبتها:
وأنت في عريش النور ... يا رسولنا الكريم ... تضوع بالأمان والسرور
يا من بنا رحيم ... قل لعرش ربنا أنْ غدا لقاء ... شبابنا بظله سيحسن الغناء
ويترك اللاهين للحرور ... للويل والثبور ... في براثن الجحيم ... من كفك الحنون
سنشرب الفلاح ... وفي ضحى الكفاح ... يحلو لنا المنون ... على خطاك يا حليم
إلى آخر الأنشودة.
أبشري أماه، غدا سنملك الدنيا، ونعيد عرش الخلافة، ونكون في هذه البلاد الطاهرة، قنديلا يضيء للناس دجى الخنوع والركون والدعة، أمي، أعرف أنك الآن تفكرين في كل شيء يتعلق بحياتي، حتى التفاصيل الصغيرة: أكلي، شربي، نومي، فأقول لك بأنني أشعر وكأني في جنان الخلد، فما أشعر به لا يمكن التعبير عنه.
مشتاق إليكم كثيرا، أعرف أنك تتألمين من أجلي، ولكن دين الله غال ولن نُمكّن له إلا بالتضحيات، حافظي على سناء، ازرعي في صدرها الأمل، واجعليها تتفاعل مع حياتي الجديدة، حتى تشعر بعظمة ما نقوم، وليكن جهادها هو الصبر على فراق خطيبها المجاهد.
بلغي تحياتي لكل إخوتي، وخطيبتي سناء، قولي لها إن عدتُ منصورا سيكون ما حلمنا به، ولكن إن شرّفني الله بالشهادة، سأدعو لها من جنان الخلد، إن شاء الله، بأن يرزقها الله من هو خير مني، وأخيرا، أذكري حالنا بخير لكل من يسأل عني وأدعو لنا بالنصر، والله أكبر والعزة لله ولرسوله والمؤمنين.
من البقعة الطاهرة المباركة ... أرض الجهاد والتضحية ... ابنك المشتاق)..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.