في (مؤتمر القمة الثقافي الأول) الذي انعقد يومي 25و26/11/2011 في ميسان وضمن توصياته أقر جميع الحضور أن يوم 25/11 من كل عام يوما للمثقف والثقافة العراقية . تعرّف الثقافة بأنها: منظومة الأفكار والمعتقدات والتقاليد والتراث والطقوس والفنون والأخلاق واللغة والقانون..التي يكتسبها الفرد بوصفه شخصاً ينتمي لشعب أو جماعة أثنية أو دينية أو مذهبية أو سياسية.. تنعكس على سلوكه العام وممارساته الحياتية العامة. هذا يعني أن (الثقافة) نكتسبها من خلال (التعلّم) والاحتكاك بالثقافات الأخرى..لا سيما في عصر الانترنت والفيسبوك والتويتر واليوتيوب ووسائل الاتصال الجماهيري التي صارت عابرة للقارات في لحظات. لقد جاء في الاعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بقرار الجمعية العامة عام 1984 ما يأتي بخصوص الثقافة: (لكل شخص الحق في أن يسهم بحرية في الحياة الثقافية للجماعة، وفي أن يتمتع بالفنون، و يشارك في مختلف أنواع التقدم العلمي وفي الفوائد الناجمة عنها). وللثقافات أدوات أو وسائل مختلفة، منها: 1. القراءة: بجميع أنواعها الأدبية والعلمية والسياسية والدينية والفنية.. من خلال الكتب والصحف والمجلات وماشابهها. 2. الاستماع: عن طريق أجهزة المذياع (الراديو) أو التسجيل..أو أي جهاز آخر. 3. المشاهدة: عن طريق أجهزة التلفزيون، السينما، المسرح، الفيديو.. وماشابهها. 4. التدوين: بمختلف أنواعه بما فيها المواقع الالكترونية. هذا يعني أن لكل فرد عراقي الحق في قراءة ما يشاء واستماع ومشاهدة وتدوين ما يريد من الثقافات بوصفها من الحريات العامة، وحق ضمنه الاعلان العالمي لحقوق الانسان. والثقافة تؤثر في السلوك.. وفي المزاج والوجدان والمشاعر. ففي دراسة كلاسيكية أجرتها عالمة الاجتماع الشهيرة مرغريت ميد عام 1935 وحملت عنوان ( الجنس والمزاج في ثلاثة مجتمعات بدائية) توصلت إلى أن الثقافة تؤثر في السلوك، حين وجدت أن الثقافة القائمة على التنافس تشجع السلوك على العدوان فيما الثقافة القائمة على التسامح تشجع السلوك على التعاون والايثار. ودليل آخر من مجتمنا العراقي عن تأثير الثقافة في السلوك، هو أن ثقافة العنف أخذت تشيع بين العراقيين بدءاً من الحرب العراقية الايرانية عام 1980 التي استمرت ثمان سنوات، تم فيها عسكرة الناس بما كان يسمى (الجيش الشعبي) الذي شمل كل الشعب بمن فيهم المعلمون وأساتذة الجامعة. وأن جيلا" كاملا" من الشباب بعمر (35) سنة فما دون حجمه الآن أكثر من نصف المجتمع، ولدّ في حرب وتربّى في حرب..ويعيش في أكثر من حرب، تشكّل لديه مفهوم أن العنف وسيلة مطلوبة من أجل البقاء، بعكس ما كان عليه الناس في سبعينيات وستينيات القرن الماضي حيث لم تكن ثقافة العنف شائعة بينهم. من هذا نستنتج الآتي: 1. أن الثقافة لا تعني فقط معرفة وأفكار وسعة اطلاع أو شهادة تعطى فقط، إنما هي سلوك أيضا"، فالديمقراطية فكرة جميلة..ولكنها تكون نشازاً ما لم تتحول إلى سلوك جميل. 2. أن الثقافة ، في أكبر مساحاتها، انعكاس لواقع سياسي واقتصادي واجتماعي نفسي وأخلاقي معاش ،وأنها تتغير في هذه المساحة بتغير الوقع. 3. أن الثقافة تؤثر في السلوك، وأنها تشبه (الداينمو). فكما أن الداينمو هو الذي يحرّك السيارة، فإن الثقافة هي التي تحرّك سلوك الإنسان..ولهذا يختلف سلوك رجل الدين عن سلوك الفنان، عن سلوك الارهابي..لأن لكل واحد منهم ثقافة مختلفة..ولأن الوجه الخفي للثقافة هو القيم،التي لا يدرك كثيرون أنها هي التي توجّه السلوك وتحدد أهدافه. 4. أن الحريات العامة.. لن تتحقق إلا بأن تحترم الحكومة والأحزاب والناس كل الثقافات.. بالمفهوم الذي حددناه للثقافة، الذي يعني حرية الفكر والمعتقد والقراءة والاستماع والمشاهدة والتدوين، وبما يضمنه الاعلان العالمي لحقوق الانسان الخاص بالثقافة. 5. وكما أن للعربي الحق في أن يعتز بقوميته ،فان للكوردي الحق ان يعتز ايضا بقوميته،وللتركماني والآخرين نفس الحق ايضا.وكذا الحال فيما يخص الأديان والمذاهب والمعتقدات..وهذا مبتغى تحققه الثقافة لا السياسة.وحين يصل العراقيون الى هذا المستوى من احترام الآخر عندها نقول ان الديمقراطية نضجت اجتماعيا وثقافيا في العراق. المثقف. ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟ قولي لي: كيف استطيع ان احبّك اذا لم اكن حرّا"؟! كيف اهبك قلبي اذا لم اكن حرّا"؟. بهذا المقطع من قصيدة (لوركا) يتبين لنا أن الإنسان لا يستطيع أن يحب من دون أن يكون حرّاً، وأن "المثقف" هو أكثر الناس حاجة إلى الحرية، وأكثرهم هموماً ومتاعباً وأشدهم حساسية، لأن المثقف الحقيقي هو الذي يجسّد الإنسان ويوقظ فيه الوعي، وهو أفضل ناقد اجتماعي للظواهر السلبية والايجابية الشائعة في المجتمع، وأفضل من يشخّص الحقيقة، وأفضل من يدعو إلى التغيير الايجابي الذي فيه مصلحة الجميع. والمثقف ليس وصفاً أو لقباً يطلق فقط على الذي يؤلف الكتب ويكتب بالصحف ويتحدث في وسائل الاعلام، بل يشمل كل من اشتغل بالثقافة إبداعا" ونشاطاً في ميادين العلوم الطبيعية كالفيزياء، والطب، والهندسة، والدين، والفن والفلسفة.. ومجالات المعرفة الاخرى. لقد واجه المثقف في العالمين العربي والاسلامي ثلاث سلطات، الأولى: السلطة الرسمية (الحكومة)، وهذه حاربت المثقف الحقيقي بلقمة الخبز او بالسجن أو بكاتم الصوت..أو بمقص الرقيب. وعملت على كسب عدد من المثقفين بأن اشترت اقلامهم وضمائرهم بالمال والامتيازات المادية والمعنوية. وهذا الصنف من المثقفين ينطبق عليهم وصف النبي الكريم محمد (ص): (اذا رأيتم العالم يرتاد السلطان فاتهموه). والثانية: الثيوقراطية الدينية، ويقصد بها الدولة التي تكون خاضعة أو متأثره بسلطة رجال دين متطرفين يدعون الى تحريم الافكار والموسيقى والمسرح والسينما وحرق الكتب واباحة دم المثقف. وهذا يتعارض مع جوهر الدين الاسلامي، الذي يقرّ مبدأ الاختلاف( ان اختلاف السنتكم والوانكم لآيات للعالمين)، والاجتهاد (المجتهد ان اصاب فله حسنتان، وان اخطأ فله حسنة الاجتهاد)..وما قاله الإمام الشافعي: ( رأيي على صواب ولكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ، ولكنه يحتمل الصواب). وأن نكون بمستوى ما قاله الفيلسوف الفرنسي فولتير: (قد اختلف معك في الرأي ولكنني مستعد لتقديم حياتي ثمناً للدفاع عن حريتك وحقك في التعبير). والثالثة: قوة العادات والتقاليد وسلوكية المجتمع التقليدي الساكن الذي لا يريد ان يتطور. وقد تثير هذه السلطة الخوف لدى المثقف من مهاجمته لتقاليد مختلفة (مثل جرائم الشرف أو غسل العار) أو نقده لظواهر سلبية، مثل الزواج داخل العشيرة الواحدة كما كان شائعا في العشائر العراقية. أن المثقف عقل مبدع وله دور فاعل في تقدم المجتمع وازدهار الوطن، ولكنه لا يستطيع ممارسة هذا الدور الا بالآتي: 1. ان يضمن له الدستور والقانون ما اقرّه الاعلان العالمي لحقوق الانسان في المادة 19 التي تنص على أن ( لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير). 2. عدم محاربة المثقف في لقمة عيشه أو ترهيبه بشكل مباشر، أو غير مباشر. 3. منح المثقف مكانة محترمة بالاستماع إلى رأيه وتأمين متطلباته المشروعة، لا سيما توفير وسائل لنشر ما يكتب من مقالات ومؤلفات. إن تسونامي الأنظمة العربية الذي أطاح بسلطات مستبدة وفاسدة لن يحقق كامل أهدافة في حرية التعبير وكرامة الإنسان ما لم يكن مصحوبا بوعي ثقافي يمارسه المثقف دون خوف من سلطة إلا سلطة الحقيقة.