'ولما كان ذلك لا يتم علي الوجه الصحيح إلا إذا كان لها نظام دستوري كأحدث الأنظمة الدستورية في العالم وأرقاها تعيش في ظله عيشا سعيدا رضيا وتتمكن به من السير في طريق الحياة الحرة الم طلقة ويكفل لها الاشتراك العملي في إدارة شئون البلاد والإشراف علي وضع قوانينها. ومراقبة تنفيذها ويترك في نفسها شعور الراحة والطمأنينة علي حاضرها ومستقبلها مع الاحتفاظ بروحها القومية والإبقاء علي صفاتها ومميزاتها التي هي تراثها التاريخي العظيم'. كانت هذه الكلمات هي جزء من مقدمة دستور عام1923 والذي هو المحطة الأهم في تاريخ مصر الدستوري والذي استعرضنا محطاته في المقال السابق, لكن هذه الكلمات تبقي حية حتي الآن ونحن وكل المصريين نتوق إلي دستور جديد بعد ثورة شعب مصر العظيم25 يناير يحقق ما فصلته هذه المقدمة لدستور1923, الذي ولد في لحظة ثورية وتاريخية فاصلة بعد حدث كوني كبير هي الحرب العالمية الأولي التي أحدثت زلزالا في البنية السياسية للمجتمع المصري حيث فجر ذلك ثورة عظيمة هي ثورة1919 التي خرج فيها الشعب المصري يقدم الدماء والأرواح ضد الاستعمار الذي جثم علي صدور المصريين وضد الفساد الذي استشري في النظام السياسي وضد استبداد الملك وهيمنته. خرج الشعب المصري كله في ثورة1919 وفي جميع أنحاء القطر من القري والمدن ومن كل الطبقات من العمال والفلاحين والرجال والنساء وتوحد أيضا أبناء الأمة من مسلمين وأقباط لرسم صورة الثورة الحضارية ينادون بالاستقلال والدستور وينادون بالحقوق والحريات وهي صورة مشابهة في تفاصيل كثيرة لما حدث بعد ذلك في ثورة25 يناير.2011 وأوجه التشابه بين المناخ الحزبي قبل الثورة وبعدها وتأثير ذلك علي كتابة الدستور وطريقة تعامل القوي السياسية مع آليات ومخرجات عملية كتابة الدستور تؤكد ما قلناه في مقال سابق من أن عملية التدافع السياسي والحوار الديمقراطي هي عملية شاقة وصعبة لكنها مهمة وضرورية للمجتمعات التي لم تمارس الديمقراطية الحقيقية لفترات طويلة وتعودت لسنوات علي الركود السياسي والثبات الزائف والاستقرار المتوهم ويمكن أن نلاحظ ذلك أيضا حتي في اللحظة التاريخية لكتابة الدستور الأمريكي الذي شهد أيضا حوارا صاخبا ومساجلات عنيفة قبل أن يكتب بشكله النهائي بريشة هوارد تشاندلر كريستي. إن الديمقراطية وهي القدرة علي طرح بدائل مختلفة والاختيار بينها بقواعد شفافة واضحة لابد أن تشتمل ممارستها علي رصيد من الخبرة الطويلة في الحراك الفعلي للمجتمع ولقواه الحية,وهو ما افتقدناه في مصر لفترات طويلة وفي حقب متعددة ويشعرنا بالقلق أحيانا في لحظة ممارسة ديمقراطية حقيقية, كما يحدث الآن في لحظات كتابة دستور مصر, ويبقي أن نشير الي أن الوعي الحضاري الجمعي والقيم الحاكمة في المجتمع هو الذي سيجعل هذه الفترة تمر دون أن نهدر الاوقات والموارد فيما لا طائل منه. إن الناظر للحظة ميلاد دستور1923 يجد هذا المعني واضحا جليا حيث لم تعرف مصر دستورا حقيقيا قبل هذا الدستور يؤسس لديمقراطية فاعلة وعمل سياسي يعبر عن إرادة الشعب باستثناءات محدودة- كما أشرنا في المقال السابق- عندما وضع ما يسميه بعض المؤرخين بالجنين الدستوري أو بدستور العرابيين في عام1982, والذي لم ينتج عنه أي ممارسة حقيقية تعطي المجتمع وقواه السياسية الخبرة المتراكمة بل جاء الاحتلال البريطاني سريعا ليفسد النظام السياسي بأسره. وعندما شكل الملك فؤاد لجنة وضع الدستور من ثلاثين عضوا ولم يتضمن التشكيل أيا من قيادات حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية والأكثر حضورا في المشهد السياسي في ذلك الوقت شن' الوفد'حملة قاسية علي طريقة تشكيل اللجنة وعلي غياب القامات التي تمثل حزب الأغلبية حتي أن سعد زغلول أطلق عليها وصف لجنة' الأشقياء'. طرح الوفد وقتها مطلبا بتشكيل جمعية نيابية تأسيسية منتخبة بديلا عن لجنة الملك فؤاد واستمرت اللجنة في عملها رغم كل هذه الاعتراضات وأنتجت في نهاية المطاف دستورا حقق في ذلك الوقت بعضا من طموحات المصريين في السعي نحو الحرية والحياة الديمقراطية, حتي ان حزب الوفد بعد ذلك أصبح أكثر الاحزاب تمسكا بدستورلجنة الاشقياء, بل ان اسم الوفد فيما بعد ارتبط بالصراع مع الملك من أجل حماية هذا الدستور بينما الحزب الذي ساهمت لجنة الدستور في دعمه أملا في دعم الدستور وهو حزب الاحرار الدستوريين قابله الشعب في هذا التوقيت بمشاعر لم تكن ايجابية.. إن دستور1923 هو أول دستور تناول بالتفصيل طموحات وآمال الشعب المصري في قضايا الحقوق والحريات وقضايا النظام السياسي حيث بلغت مواد هذا الدستور مائة وسبعين مادة نظمت وضع الدولة المصرية في مادة واحدة وحقوق المصريين وواجباتهم في واحد وعشرين مادة والملك وصلاحياته في أربع وعشرين مادة والوزراء في خمسة عشر مادة ومجلس الشيوخ في سبع مواد ومجلس النواب في سبع مواد والسلطة القضائية في سبع مواد ومجالس المديريات والمجالس البلدية في مادتين والمالية العامة في أحد عشرة مادة والقوات المسلحة في ثلاث مواد والأحكام العامة في ثلاث مواد بالإضافة لأحكام ختامية ووقتية.. ورغم الاحتفاء بهذا الدستور باعتباره حتي اليوم أحد أهم دساتير مصر إلا أن-وكما أسلفنا- افتقاد الأمة المصرية إلي الممارسة وضياع مفهوم التداول السلمي للسلطة بشكل حقيقي وفاعل أدي إلي انحراف الحياة الحزبية عن مسارها للتعلق- بدلا عن الديمقراطية- بجماعات المصالح التي تمثلت في مصالح القصر ولم يتبق إلا بعض الممارسات الشكلية هنا وهناك وبعض القوي التي نأت بنفسها عن هذا المشهد مما أدي إلي ثورة لاحقة بعد ذلك هي ثورة يوليو.1952 إن تلك اللحظة التاريخية,التي دفع المصريون ثمنا غاليا للوصول إليها وقدموا من كفاحهم ودمائهم دفاعا عن هذا الدستور وطلبا للديمقراطية التي حلموا بها, وظل الشباب في الثلاثينات والأربعينيات من القرن الماضي من مختلف القوي الوطنية يهتفون عبر الايام عاش دستور1923 املا في ان يحافظوا علي ماحققوه من مكتسبات.. تلك اللحظة لا بد أن تكون حاضرة أمامنا ولابد من أن يكون هذا المشهد شاخصا أمام أعين الجميع حني لا نضيع فرصة هامة في حاضرنا. أما اللحظة الراهنة وبعد ثورة25 يناير العظيمة وقد تشابهت بعض ملامحها مع ملابسات وضع دستور1923 فتدعونا جميعا أن نتحرك من أجل المحافظة علي ما حققه المصريون بتضحياتهم ونضالهم من أجل الوصول لديمقراطية دستورية تتجذر وتتعمق بالممارسة الحقيقية.. ممارسة تقوم علي دعم استقلال السلطات الثلاث وعلي الدفاع عن مفهوم التداول السلمي للسلطة وعلي حق الجميع في أن يطرح ما يراه دون اقصاء او تخوين. علينا جميعا أن نعمل ونحن متفائلون أننا كمصريين قادرون ورغم كل التحديات الداخلية والإقليمية علي أن نسطر حالة نجاح جديدة تضاف إلي رصيدنا الحضاري.