خلال الأشهر الأولى من هذا العام 2020 ، اجتاح مرض "كوفيد 19" كل أنحاء العالم، وأصاب الملايين بل البلايين بالخوف والذعر، وزلزل دقائق حياتنا اليومية، وأدى الى تداعيات كارثية إنسانية وسياسية واجتماعية واقتصادية وتعليمية ورياضية وغيرها، بشكل لم يشهده العالم من قبل، وجدت معه المنظمات العالمية العملاقة، والدول ذات النظم الصحية القوية نفسها تتعثر في مواجهة هذه الجائحة الخطيرة وتداعياتها الكارثية، التي لا تقدر بثمن، فكشفت بذلك هشاشة أمن الإنسان في كل مكان، وفشل النظام العالمي القائم في توفير الحماية الأساسية الضرورية له، الأمر الذي يؤكد أكثر من أي وقت مضى على ضرورة إعادة ترتيب الأولويات وتوجيه الموارد البشرية أولا من أجل تحقيق الأمن الصحي العالمي والأمن الإنساني بشكل عام بما في ذلك تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية-أهداف 2030 للتنمية المستدامة. بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لقصف "هيروشيما" و"ناجازاكي" بالقنبلة الذرية في السادس والتاسع من شهر آب/أغسطس 1945 ، التي تقام فعالياتها في جميع أنحاء العالم، من قبل منظمات المجتمع المدني وبعض الحكومات ووسائل الإعلام المختلفة، وتنادي جميعها بحظر الأسلحة النووية وإزالتها، وتذكير العالم بالعواقب الإنسانية الكارثية للأسلحة النووية وإيقاف جنون الإنفاق العسكري في كل مكان. وهنا لا زلت أذكر موقف "الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر" وهو أكبر منظمة إنسانية في العالم الذي أكد في أكثر من مناسبة أن هناك بينات هائلة عن التداعيات الكارثية المباشرة والبعيدة المدى لاستخدام السلاح النووي التي تصيب الصحة والبيئة والمناخ وعمليات إنتاج الغذاء، أي كل ما تعتمد عليه حياة الإنسان، لذلك لابد من العمل على حظرها والتخلص منها. نعم، لطالما كان نزع السلاح النووي من أقدم أهداف الأممالمتحدة، فقد كان أول قرارات جمعيتها العمومية عام 1946، كما أنه لم يغب عن جدول أعمالها الدوري منذ عام 1959، وكذلك في جلستها الخاصة بنزع السلاح عام 1978، فقد وضعته على رأس أولويات نزع السلاح في العالم، وقد تكللت هذه الجهود بإبرام "معاهدة حظر الأسلحة النووية"، وهي أول اتفاقية دولية للإلزام القانوني بحظر الأسلحة النووية على نحو شامل، بهدف المُضي نحو القضاء التام على هذه الأسلحة. مُررت هذه المعاهدة يوم 7 يوليو عام 2017، وتمنع هذه المعاهدة الدول المُصدِّقة عليها من تطوير، واختبار، وإنتاج، وتخزين، وإقامة، ونقل، واستخدام، والتهديد باستخدام الأسلحة النووية، بالإضافة إلى حظر المساعدة والتشجيع على هذه الأنشطة المحظورة، وتعطي هذه المعاهدة الدول المُصدِّقة عليها، والمالكة للأسلحة النووية، إطارًا زمنيًا محددًا لإجراء المفاوضات التي ستؤول إلى قضاء مُحقَّق، وبلا رجعة، على برنامج الأسلحة النووية، من أجل سلامة وأمن ورفاه المجتمع الإنساني في كل مكان. مع بزوغ فجر كل يوم، ينفق العالم ما يزيد عن خمس مليارات دولار، على برامج التسلح وباقي جوانب الإنفاق العسكري الأخرى، وفي ذات اليوم يموت نحو 24 ألف طفل من الفئة العمرية تحت الخمس سنوات بسبب أمراض يمكن علاجها، وبسبب الافتقار إلى الدواء والغذاء. يزيد هذا الإنفاق العالمي اليومي عن ضعف الموازنة السنوية لكل مؤسسات الأممالمتحدة، وتزداد المفارقات مرارة وألماً إذا علمنا أن 7% فقط مما ينفق على التسلح يكفي للتخلص من الجوع والفقر الشديدين في العالم أجمع، كما أن 20% مما ينفقه العالم على التسلح يكفي لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية التي تضم مكافحة الفقر الشديد، وخفض وفيات الأطفال، وتحقيق التعليم الأساسي، وتعزيز برامج رعاية الأمومة، وتمكين المرأة، والبيئة المستدامة، بالإضافة إلى مكافحة الإيدز والملاريا، ودعم النظم الصحية، وهي أهداف طالما تطلع إليها العالم منذ العام 2000. تنفق الدول النووية وحدها أكثر من 120 مليار دولار سنوياً من أجل صيانة أسلحتها النووية والحفاظ عليها، فكيف يكون العالم لو أنفقتها على البحث العلمي، والتعليم، ومكافحة الأمراض، وتعزيز النظم الصحية وغيرها. حقا إن العالم اليوم يسرف بجنون، ما بعده جنون، في تمويل الإنفاق العسكري، بينما يقطر ويقطر في تمويل جهود السلام والتنمية والصحة. نعم كثيراً ما يشوب هذا الإنفاق فوضى الأولويات، وألاعيب السياسة، والصفقات المشبوهة التي تكدس المليارات في جيوب حفنة من صناع القرارات، وشركات الأسلحة التي لا يعرف تاريخها غير الإثراء مهما كان الثمن الإنساني الباهظ الذي تدفعه الشعوب من قوت أطفالها ومستقبلهم. لا يسعنا ونحن نشارك في هذه الجهود العالمية للذكرى السنوية الخامسة والسبعين لقصف "هيروشيما" و"ناجازاكي" بالقنبلة الذرية، إلا أن نطالب منظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم، ووسائل الإعلام، والحكومات أن تضع الأمن الإنساني أولا، وتعمل على وقف حمى التسلح وباقي أشكال الإنفاق العسكري، ودعم "معاهدة حظر الأسلحة النووية"، والامتثال لقرارات الشرعية الدولية وبناء السلام، بالإضافة إلى تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في هذه التجارة التي تضع الربح فوق القيم الإنسانية النبيلة وفوق سلامة وأمن ورفاه المجتمع الإنساني. "الأمس بعين اليوم": زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور