أصدقائى الأعزاء لماذا أكتب تحديداً عن الحرب؟… ربما كان هو السؤال الذى إستوقف الكثيرين منكم، وكان ذلك نفسه سؤال يستعصى على الإجابات الساذجة والرشيدة داخل النفس، فأنا أستشعر الحرب محاطة من كل جانب، وأحاول قدر إستطاعتى أن أبعد خطرها عنى ما أستطعت، وعندما فكرت أنا شخصياً فى الإجابة وجدت نفسى أننى – ربما – سأخترع لكم بسبب ذلك ألف قصةً بروايةٍ مجهولة النهاية، فحديثى عن الحرب يحمل بداخلى أوجاع بها تقريباً كل تناقضات حياتى ما عشته وما لم أعشه، لذلك لا أهرب إلى أىّ مكان فى هذه الحياة سوى إلى مكان واحد وهو خندق أو مأوى، أخفض بها رأسى بعيداً عن مآسى تلك الحرب اللعينة، فذاك الحزن لم يترك فى قلبى الرهيف زاوية إلّا ومارس فيها طقوسه وأفرغ فيها كؤوسه، عن النهايات المفتوحة التى لم يتطوّع أحد حولى ليوصدها خلف الغياب، عن لحظات الإرتياب والإشتياق، وعن الخوف الذى تملّك السطر الأخير من يوميات الحروف، لذلك كله ولكل ما أردته من أسباب أخرى سابقة فأنا لم أستطع أن أعيش يوماً بعيداً عن هذه الحرب، وإليكم نص كلماتى اليوم ما أكثر ما يعذب المرء فى حبه؟… إن أكثر ما يعذبه حقاً هو أن المرءُ يحبُّ الذين لا يشبهونه على الإطلاق، ترى قلبه يقعُ فى قبضةِ ذاك الذى يفصلهُ عنه آلاف من الفروقات… وتلك هى المأساة فى الحُبْ من أصعب ما عرفت ساعة الحرب هو أن كل الذين ماتوا أبكونا لأننا خشينا على أنفسنا نتائج هجرهم، وهذا لأننا نحب، وما أفضل الحب وما أشد سوئه! ما الذى تبقى منكِ بعد الحرب؟… إعتدلت باكية، لأن كل ما تبقّى منى ليل مجنون يأبى أن يعقل ويأبى أن أرفع عنه القلم، ما تبقّى منّى أصبح نائم أبى أن يستيقظ وأبيت أن أرفع عنه القلم، ما تبقّى منّى عندما كنت طفلة صغيرة تلهو وتلعب يأبى أن يكبر فلم أرفع عنه القلم من أدهش ما تعلمت طيلة حياتى هو ما قد قيلَ بأنّ الرجل قد كان قائداً عسكرياً ناجحاً حتى أحب، وأنّ القاضى كان عادلاً إلى أن أحب، وأن المرأةَ كانت جميلة إلى أن أحبّت، وأن الشيخ كان تقياً إلى أن وقع فى الحب، فهل يُؤثر الحبُّ على جمال الإنسان أو عدله أو قوته أو إيمانه؟ هل إختلف الليل وقت الحرب عن أوقات السلام لديك؟… واحداً من أعمق تلك الأسئلة التى وُجِهت لى، فهذا الليل الذى لم أجد سواه فرصة لأعقد معه جلسة وأعلن ثورتى عليه وحزنى وأُقبّل الورق خلال ساعاته خلسة. هذا الليل الذى قيل إنه ستّار عيوب، هذا الليل الذى لطالما إقتحم القلوب وخرق فيها الجيوب فلم يدع فيها جرحاً إلّا ووضعه على نارنا، وصبّه فى وعاء الحروف، هذا الليل الذى كشف جميع عيوبنا بالظروف! هل ستصمتين إزاء المختلفة معهم ساعة الحرب؟…. لا أعتقد ذلك، فأنا كإنسانة لا أحتمل الصمت تجاه ضحايا الحرب حتى ممن كنتُ أختلف معهم إختلافاً جذرياً. لقد وصلت إلى قناعة تامة أن أطراف الصراع الرئيسية والأطراف الأخرى المتجذرة منها، متفقة على إستمرار الحرب، الحرب بالنسبة لهم وجبة دسمة، لا يمكن أن ننتظر منهم سلاماً من أصعب ما تعلمت ساعة الحرب فى هذا الوطن، هو أنه ما نعلمه ويجب أن يتعلمه أبناءنا هو أن هذه المدينة لطالما إنحنت دوماً للعواصف منذ أن وقعنا فى أسر الحرب، ولكنها ما تلبث حتى تنهض من جديد كمارد هزم الموت وإنتفض هل تغير الوطن الآن بداخلك؟… صرخت بأعلى صوتى أبكى مولولة… أى وطن تتحدث عنه الآن فى بلد إنقطعت فيه كل سُبل الحياة، وسُبل الموت متجددة ومتعددة، فى بلد يقتات قادته على آلام ومعاناة شعبهم، في بلدً يموت شبابه فى المعارك هدراً، ويموت أطفاله فى المنازل جوعاً، فى بلد دُمر حاضره وقُضى تماماً على مستقبله، فى بلد يموت فيه الصغار يومياً بسبب حماقة الكبار… فهل بعد كل ذلك يا سيدى تريد منى ألا يتغير معنى هذا الوطن بداخلى؟ هل قرأتِ يوماً رواية البؤساء؟… إعتدلت باكية، فالأمر يشبه عندى ليلة البارحة وأنا أصرخ فى وجه كل من أقابله فى هذا الوطن… إسألوا ثم اسألوا وستخرجون بأجوبة تكفى لكتابة رواية، رواية البؤساء بنسختها الأكثر واقعية فى هذا الوطن والأشد ألماً. ولا تنسوا أخيراً أن تسألوهم، هل مازال عندنا أطفالاً أم تمكن منهم الكِبر؟ أيهما تفضلين الحرية أم الأمان؟….سؤال رغم عدم أهميته القصوى عند البعض منا، إلا أنه من أكثر تلك الأسئلة عمقاً وضجيجاً بداخلى، لأن الإنسان الحر فى إرادته يشعر بطبيعته بالأمن أكثر من الإنسان المقيّد فيها، وإجابة على سؤال: هل تقبلين أن تتخلين عن حريّتك من أجل توفير أمنك؟ يصبح عبثياً وغير ذى جدوى أو معنى ما تعريفك للمواطن العربى؟…. أدرت وجهى بعيداً وأنا أنظر فى إتجاه غير محدد، وأجبت الحضور: فالمواطن العربى يا سادة لا تجذبه سوى نظريات المؤامرة، والنقاشات العقيمة، ولا يهمه لماذا تثور أو تغضب الشعوب، فهو يملك إجابات جاهزة مسبقاً فى عقله، حول كل شىء يجرى فى هذا العالم… فبالتالى، فلا معنى لسؤالك حول جدوى تعريف العرب من أكثر ما أعجبنى هو حديث الرئيس الفرنسى “ماكرون” حول الكتابات الساخطة على حكمه، الذى قال عَنه: “خليطُّ من كل شىء، ومزيجُّ من اللاشىء”؟… وربما ما جاء فوراً فى ذهنى هو ذلك الربط الغريب بين كلمة “ماكرون” وبين وصف “آية الله الخمينى” الإعدامات بعد الثورة فى إيران، بأنّها تهدف للقضاء على الكلاب المجرمة، بسبب تعلّقها وإخلاصها لنظام الشّاه المنهار…. فالكلمتين لهما نفس الصدى فى أعماقى ما أكثر وصف ينطبق عليكِ الآن؟… إنفجرت باكية بكاء السنين، وأنا أمسح تلك الدموع التى أغرقتنى مجيبة بأننى : كثيراً ما كنت أظنُ نفسى كالجبال الرواسى ثابتة راسخة وقادرة على المواجهة وعلى الصمود، ولكننى الآن حقاً قد وصلت إلى نقطة أكاد أشعر فيها أن قواى قد خارت وعزيمتى قد بلغت أدناها… وللأسف تلك هى الحقيقة ولا شئ سواها أتذكر يوماً أننى – ربما بغير قصد – كذبت على طلبتى وأنا أحشد فيهم تلك القوة الكاذبة الكامنة داخلهم، قائلة: عندما تشعر بخيبة أمل من الجميع لا تلتفت إليهم، ولكن أنظر أنت وهو أمامك، فستجد هنالك أحلاماً ما زالت تساندك حتى تواصل… نعم يا بنى، سوف يخذلك الجميع، ولكن تبقى الأحلام وحدها هى الجدار الصلب الذى يجب أن تستند دوماً عليه ما أكثر تلك اللحظات مأساوية فى حياتك؟…. أجهشت فى بكاءٍ مرير وأنا أكرر لم أجد أشد أو أصعب ألماً فى حياتى ومرارة من لحظة وفاة أبى، كان والدى ملقى على الأريكة مخيفاً بصلعته وعظام صدره البادية بوضوح، ذهبت أمى بنا لكى نراه، حتى أن صورته ظلت راسخة فى ذهنى لأسابيع، ومن يومها وأنا لم أعد أستطع النوم جيداً بعد فقدى الإحساس بالرعاية والحب والأمان هل الأبوة تعنى فقدان وطمس للهوية؟…. أعتقد أن أكثر ما كان يثير حقاً حنقى وحفيظتى فى الوقت ذاته، هو رغبة أبائنا المستمرة فى أن تصبح حياتنا إمتداد لحياتهم، فمعظم الآباء فى وطنى وتحت دافع الخوف من صعوبة الحياة، ونصائح الخبير، تنتهك تجارب أبنائهم وبناتهم الشخصية… فإن كانت تلك حياتهم، أين هى حياتنا الخاصة، وإن كانت حياتنا إستمرار للتجارب الماضية من أبنائنا، فما الفائدة إذاً من تلك الحياة؟ وماذا يصبح الغرض أساساً من وجودنا فى هذا الوقت الحاضر؟! وماذا تعلمتِ من تلك الحرب؟…. تعلمت الكثير والكثير… تعلمت أنه لا يمكن لمستبدّ أن ينتمى لطائفةٍ أو لملة ما لأنّ إستمراريته مرهونةٌ بصراعها مع الأخرى، وكانت الضحية الأكبر من الطرفين هم المدنيّون الذين باتوا أمام معركةٍ لا يريدونها… وتلك هى خلاصة كل تجاربى من تلك الحرب وأخيراً، وقبل أن أفر هاربة من وطنى لبلاد أخرى بعيدة من وحشية تلك الحرب…. كنت أنظر دوماً ورائى على عجالة، كل شىء كان يوحى بالصمود، حتى الكتابات التى خطها السكان على ركام البيوت، فى سيرى بين ركام البيوت لا غرابة أن أجد لعبة طفل، أو ملابس أب أو أم، أو حتى مصحفاً بقيت منه بعض الأوراق الممزقة، كل شىء فى تلك المدينة اللعينة يذكرنا بأصحابه، ويروى تفاصيل يوميات زاخرة بالحياة مرت من هنا أو هناك، ورحلت مع الشهداء والموتى… فكنت كلما أكملت المسير إزدادت أصوات القذائف والإنفجارات ضجيجاً وعلواً من كل مكان حولى… ومن وقتها وأنا قد تعلمت أن الوطن أغلى من أن يُهان أو يُنسى!… ومن وقتها صدقونى فأنا أخاف من الرجوع