مخطىء ٌمن يظن أن كلمة “العطاء” تعني في مضمونها: العطاء المادي من مالٍ أو هدايا ماسية أوذهبية؛ بل يكمُن المعني السامي له في تحيةٍ صباحية من قلبٍ نقي لرفقاء الطريق أو العمل، في كلمة شكرواجبة لمن قدّم خدمة ولو بسيطة، في إشارة ود لطفل يبتسم لك دون سابق معرفة، في مساعدة شيخ أو معاق ليعبر الطريق، في تحية رجل المرورالذي يقف في الشارع محتملاً حرارة الشمس وزمهريرالشتاء، في الإشادة بالنادل الذي يضع أمامك قهوة الصباح في مقهى بعيد داخل قاع الحارة المصرية، في التصدِّي بالحسنى للحُوذي الذي يُلهب بسوطه ظهر الحيوان الضعيف ! وإيمانًا بهذه القيم الرفيعة لفلسفة العطاء اللامحدود؛ شهد المجتمع المصري عدة فعاليات احتفالية بمناسبة مواكبة عيد الأم مع أعياد الربيع، فالأم هي المثال الأبهى لنهرالعطاء الرقراق الذي لاتحده ضفاف ولا يعتريه جفاف ! هذا النهرالمعطاء الذي قام بحمل الدعوة الكريمة إلى حضوري احتفالية تحت عنوان “يوم العطاء” للعام الحادي عشر برئاسة الأب بطرس دانيال بقاعة النيل ب “المركز الكاثوليكي المصري للسينما” بوسط القاهرة، وحل الفنان الدكتورأشرف زكي، رئيس أكاديمية الفنون ونقيب المهن التمثيلية ؛كضيف شرف لتلك الأمسية؛ ومشاركًا المركز في منح دروع التكريم . وشهدت الاحتفالية تكريم بعض رموز الفن والمجتمع والإعلام الذين لهم دور بنَّاء في خدمة المجتمع المصري، منهم السفيرة نبيلة مكرم وزيرة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج، د.مايا مرسي رئيس المجلس القومي للمرأة، بالإضافة إلى عدد من الفنانين منهم :عايدة كامل، سميرالعصفوري،محمود الحديني،ماجدة موريس، عبد الله مشرف، فاطمة عيد، سميرة سعيد، هالة صدقي، شوقي حجاب،حسن عفيفي،د.رانيا علواني،د.عادل عدنان،منى عبدالغني وسحر رامي . وكان من أجمل المشاهد التي استوقفتني بكل الصدق والإبهارأمران : الأول : مطالبة الأب بطرس الحضور بالوقوف حدادًا على شهداء الوطن في سيناء وشهداء مسجد نيوزيلندا؛ وإلى جميع ضحايا التعصب الديني والعرقي والعنصري في كل بقاع الأرض؛ راجيًا أن يُصلِّي كلٌ بطريقته بحسب دينه؛ والأمر الثاني:هو تلك اللفتة الرائعة من الفنانة هالة صدقي التي بادرت بإهداء درع تكريمها إلى الشهداء والضحايا أنفسهم؛ لتموج قاعة المسرح بحالة من الشجن الممزوج بحُب العطاء؛ فكان عطاءً جديدًا ينضاف إلى احتفائية العطاء الكبرى؛ لألمح الدموع في مآقي الحاضرين، ولا أخفيكم سرًا أنني بذلت جهدًا لحبس دموعي؛ فالإنسانية الحقَّة لاتعرف إلا الحُب النقي الطاهر لكل قلب ينبض بالحياة؛ ويؤمن بأن البشر نفحة ونفخة من روح الله؛ لنسمو بأنفسنا ومشاعرنا فوق كل الصغائر واتقاء انحياز الضمائر إلى غير سبيل العطاء الروحي اللامحدود . كم نحتاج في مشوار حياتنا إلى تلك الوقفات البسيطة في مظهرها؛ ولكنها مليئة وغنيَّة بالمعاني التي افتقدناها في صراع الحياة اليومية؛ ونحن في حاجةٍ ماسة إليها في كل وقتٍ وحين؛ من أجل الرد على كيد الكائدين المتربصين بنا لتعكير صفو نهرالعطاء الجاري بكل شوائب النفوس الضعيفة التي تعتنق ثقافة الموت .. لاثقافة الحياة . إن مسيرة العطاء الإنساني ليست محدودة بإطار يوم بعينِه من أيام الله؛ ولكنه يظل اليوم/الرمز للتذكير دومًا بحاجتنا إلى المزيد من الجهد الدءوب وتضافرالإمكانات البشرية لمجابهة كل المخاطرالمحدقة بنا داخليًا وخارجيًا؛ ولنهب خفقات قلوبنا وعصب قوتنا لمساندة الشرفاء في كل قطاعات الدولة ومؤسساتها ومنظمات العمل المدني، لينتشرعبق الحُب والعطاء في مقاعد الدرس في مدارسنا ومدرجات البحث والعلم في جامعاتنا؛ كي نسد الثغرات التي قد تنجم جرَّاء كل التحديات من حولنا . إن العطاء الإنساني الحقيقي .. ليست كلمة محمَّلة هباءً على ألفاظ اللغة؛ ولكنها يجب أن تكون واقعًا عمليًا وملموسًا على أرض الواقع داخل مجتمعنا؛ فالمديرفي موقعه لاتتحقق له النجاحات دون تضافرمرءوسيه في تنفيذ مخططاته واستراتيجيته، والحاكم لن يتحوَّل إلى “أيقونة” لشعبه لينير سطور صفحات التاريخ بإنجازاته؛ إلا بالتفاف شعبه حوله بكل الإيمان اللانهائي بصدق مقاصده النبيلة التي لاتبتغي سوى وجه الله وصالح الوطن؛ فالحُب قيمة سامية وسامقة لاتتجزأ؛ فهو على قمة المبادىء الإنسانية الرفيعة التي لاتقبل القسمة.. ولا الانقسام ! إننا في أشد حالات الاحتياج إلى التمسك بهذا الشعور؛ وما يصاحبه من الفرح والسلام الروحي والتصالح مع النفس للعطاء بلا حدود، بلا شروط أو انتظار لأوامر أو قرارات فوقيَّة؛ فالقيمة ليست في “حجم” أو “كم” العطاء؛ ولكنها تُعد اكتسابًا متجددًا في كل صباحٍ جديد لانعكاسات موسيقا الفرح في أعماق الشعور والوجدان، لتتوارى نعرة الأنانية والنرجسية داخل الذات، ولتأكيد المعنى الرائع في مقولة : مااستحق أن يُولد .. من عاش لنفسه فقط ! وعودٌ على بدء؛ وعن فلسفة الأخذ والعطاء .. أتذكرمقولة البابا شنودة الثالث : ” إن الله قد أعطانا اليد التي تعطي، وأعطانا الخيرالذي نعطي منه، بل قد أعطانا أيضًا محبة العطاء…” ؛ و “… وعندما يقول الله: “يا ابني أعطني قلبك”، إنما يقصد: أعطني هذا القلب لأملأه بركة وحبًا وطهارة؛ أعطني هذا القلب لكي أقدسه وأنقيه وأغسله من جميع أقذاره، وأرفعه عن مستواه الأرضي لكي أجلسه في السماويات، وأُريه مجدي…” .وختاما لا يسعنا سوى تقديم الشكر الواجب للمركز الكاثوليكي للسينما ونيافة الأب بطرس دانيال على هذا التقليد السنوي الراقي ..يا لها من عطاءات متدفقة في يوم العطاء!