نعلم أن فكرة الذكاء الكتلة لم يعد لها وجود في العالم بعد أن فجّر جاردنر بطرحه " الذكاءات المتعددة " نبعًا جديدًا لعلوم الفكر، ونظرًا لكون الإنسان كائن تفاعلي بطبعه، بالتالي فهو في حاجة دائمة وملحّة كي يتميز في تواصله مع الآخرين، كسبيلٍ وحيد للتمكين من إبراز ما تنتجه ذكاءاته المتعددة، ولكي يستطيع الاستفادة من خبرات الغير والاستقاء من تجاربهم ولهذا آثرت البدء بالحديث عن الذكاء العاطفي أو الاجتماعي في سلسلة شرح أنماط الذكاءات المتعددة التي انتوي نشرها بإذن الله تعالى. "هو ما يُظهر قدرتنا على التعامل بنجاح مع مشاعرنا و مع الآخرين" هكذا وصف روفين بارون R-Baron الذي كان أول من وضع معامل الانفعالية Emotional Quotient العام 1985 الذكاء الانفعالي ثم توالت بعد ذلك الدراسات والاجتهادات لتعريف الذكاء الانفعالي والتي من أهمها : تعريف دانييل جولمان عام 1995 بأنه " مجموعة من المهارات الانفعالية و الاجتماعية التي يتمتع بها الفرد, و اللازمة للنجاح المهني و في شؤون الحياة الأخرى", وتعريف " سالوفي و ماير Salovey & Mayer " عام 1997 والذي يفيد بأنه: " القدرة على إدراك الانفعالات و فهمها و تنظيمها لتدعيم الترقي الانفعالي و العقلي ". من البديهي أنه لا يمكن تصوُّر تفاعلا بين أشخاص يجهل كل منهم ما يحويه الآخر في داخله من مشاعر، ولا يضع في مقدمة حساباته أثناء التفاعل مع الغير أثر ما يمكن أن يصدر منه من أقوال أو أفعال عليهم مما يفضي بنا في النهاية لما يشبه حوار الطُرشان ولذلك كان من الضروري الوقوف على أسس هذا الذكاء وماهيته. يمكننا أن نصف الذكاء الانفعالي بأنه قدرة الفرد على إدراك عواطفه أو انفعالاته وميوله وإدارتها و تقييمها تقييما دقيقا, للإستفادة منها في إدارة علاقته مع نفسه و مع الآخرين. تمثل هذه القدرة العلاقة التساهمية بين المستوى العقلي – المعرفي- والوجداني في التفاعل الإنساني حيث لا يخفى دور هذان الجانبان في انجاح التفاعل البشري خاصة وأن مكونات الانسان الرئيسية الثلاث هي العقل ، الوجدان والجسد وهنا يجدر الإلتفات إلى أهمية الجسد في التفاعل، حيث أثبتت إحدى الدراسات الحديثة عن التأثير في الآخرين بالتواصل، أثبتت أن محتوى الكلام يؤثر في الآخرين بنسبة 6% وأن طبقات الصوت وطريقة الإلقاء مع تعابير الوجه تؤثر بنسبة 37% في حين تؤثر لغة الجسد وإيماءاته بنسبة 57%، فالقدرة على إدراك الانفعال و فهم نوعه و مدى عمقه و آثاره على سلوك الفرد, ثم استخدام هذه المعرفة في ضبط الانفعالات و السلوك و الأفكار الناتجة عنها لصالح صاحبها, بات يعتبر من أعظم قدرات الذكاء حاليا، حيث لم يعد من المجدي أن تكون حائزًا على قدر عالي من المعرفة أو المال أو حتى القدرات والمهارات الشخصية إن لم تكن تتمتع بالقدرة على توصيل تلك المهارات والتواصل مع الآخرين لكي تكون في مركزٍ مرموق خلال سلم التعامل مع الآخرين. ومن خلال التبحّر في هذا المفهوم يمكننا القول أن أركان الذكاء الإجتماعي الأساسية هي : 1- إدراك الذات: وتتمثل في قدرة الفرد على تمييز مشاعره وجعلها شيئًا ملموسًا يمكن قياسه وإدارته ، ومعرفة نقاط قوته وضعفه، وكيفية تقييم دوافعه وسلوكه وهو ما يمكننا أن نطلق عليه مراجعة الذات أو محاسبتها . وهذا النوع من الوعي – حسب جولمان – يؤدي وظيفة رقابية على انفعالات الفرد, وهو الذي يصدر الأحكام على المشاعر المختلفة على أنها جيدة أو سيئة, مقبولة أو مرفوضة, فإذا تمكن الفرد من تطوير هذه القدرة يكون قد وصل إلى جوهر ما دعى إليه سقرلط عندما قال: " اعرف نفسك بنفسك ". 2- الإنفتاح على التغيير: لا يمكننا أن نتصور إنسانًا متطورًا متواكبًا مع ما يدور حوله من تطورات كونية دون أن تكون لديه تلك القابلية للتغيير والتكيّف مع ما يطرأ على بيئته التي يعيش فيها ، ومن هنا كانت للمرونة أهمية قصوى في تحصيل الذكاء الإجتماعي . 3- معرفة الآخرين والإلمام باحتياجاتهم، بمشاعرهم، بدوافعهم و باهتماماتهم ، كي يكون التواصل معهم إيجابيًا بعيدًا عن الجمود والتحجّر . 4- إدارة العلاقة الناجحة حيث تتجلى أهمية استخدام المخزون المعرفي والخبرات مع المهارات الثلاث السابقة لتحديد ردود الأفعال الملائمة لمختلف المواقف بتحديد نوع الاستجابة لكل موقف كأن تكون تعاطف ، تهاون، تنازل ، تمسُّك برأي ، صرامة أو حزم وحسم . و وهو ما حصره عالم النفس الجزائري " بشير معمرية " في صورة خمسة نقاط أو قدرات أساسية, هي : 1- أن يعرف الفرد عواطفه و مشاعره. 2- أن يتدبر الفرد أمر عواطفه و مشاعره. 3- أن يدفع نفسه بنفسه, أي أن يكون مصدر دافعية لذاته. 4- أن يتعرف على مشاعر الآخرين. 5- أن يتدبّر أمر علاقاته بالآخرين. وفيما يخص ذلك الجدل المستمر والدائر بين العلماء فيما يخص منح الأولوية للمعرفة أو العاطفة يقول دانيل جولمان أن " الحياة كوميديا لمن يُفكّرون, و تراجيديا لمن يشعرون . بينما الواقع يحتم أن يكون هناك توازنًا بين العقل والانفعال كي نصل إلى الأداء الأفضل , فالسلوك المبني على التفكير العقلاني المحض يؤدي بصاحبه إلى فتور العواطف في تحول أشبه ما يكون من ميكنة البشر, وعلى العكس فإن الإنكفاء على العاطفة وعزل العقل يؤدي إلى الإنقياد المفرط للعاطفة الامر الذي له نتائجه السلبية على التفاعل مع الآخرين و قد كان هناك مجال واسع للحديث عن التوفيق بين العقل و المشاعر في تسيير أمور الحياة, لكن الحقيقة أثبتت أن قلة من الناس يفلحون في خلق هذا التوافق,بينما يستمر الكثير منهم في حياة المد و الجزر في صراع القلب و العقل دون أن يفهموا جوهر هذا التجاذب,و هو السبب الأول في أنواع الإرهاق العصبي و القلق التي يعيشها الإنسان المعاصر. تنظيم الذات : إدارة الإنفعالات جيدًا بمعنى رتب أفكارك جيدًا قبل التعبير عنها بمعياري القصد والأثر . أفكارك تؤثر في مشاعرك ، و تقود سلوكك حيث يقول أرنيست دمنيه في كتابه فن التفكير ، أن نزعة الفرنسيين الشغوفة بالأفكار تجعلهم يتصورون أنه عند الإفصاح عن فكرةٍ ما فإن خصائصها ستكفي لتحقيقها . لذلك كان من المهم أن ننشط أنفسنا وأن نحفز قدراتنا الداخلية كالطاقة الداخلية ، الجهد ، الانضباط ، المثابرة والمرونة .. ومن ثم التوجه نحو المصادر الخارجية المتوفرة حولنا ومنها .. بناء شبكة علاقات اجتماعية فعالة من خلال التفاهم والحوار الناجح مع الآخر ، وتفهم حاجاته ، والقدرة على التعاطف معه ، وقراءة انفعالاته ، وتحديد الحدود المناسبة بين الذات والآخر . و قد قدم دانييل جولمان نموذجا نظريا مثيرا للاهتمام لخّص من خلاله القدرات الفرعية الأساسية التي يتشكل منها الذكاء العاطفي, و اللازمة للنجاح في الحياة الشخصية و في العلاقات الاجتماعية, إذ تشتمل على: معرفة الانفعالات, إدارة الانفعالات, تنظيم الانفعالات, التعاطف و أخيرا إدارة العلاقات. إن الركيزة الأساسية في هذا النظام العقلي –الانفعالي هي معرفة الانفعالات وقت حدوثها و إعطائها التقييم المناسب لأثرها على سلوكنا,إذ يورد جولمان في هذا السياق أسطورة جميلة تدور حول محارب الساموراي الياباني الذي التقى ذات يوم بأحد الرهبان و أراد أن يتحداه حول من أكثرهما دراية بمفهوم الجنة و النار.فنظر إليه نظرة احتقار و هو يقول له بأنه لن يضيع وقته مع تافه مغفل مثل مقاتل ساموراي, فكان أن شعر المحارب بالإهانة الشديدة, فسحب سيفه من غمده و هو يصيح راكضا نحوه في حين ظل الآخر واقفا في مكانه بهدوء, و قبل أن يصل مصل السيف إلى رقبته صاح في الساموراي: هذه تماما هي النار. فتجمد المحارب في مكانه و قد أدرك أنه فعلا كان لقمة سائغة لانفعالاته, فشعر بالخجل الشديد و انحنى للرهبان معتذرا بشدة فعاد الرهبان و هو يقول: و هذه هي الجنة وهنا يتجلى البعد الأول وهو الوعي بالانفعال في لحظة حدوثه حيث يختلف كلية عن إدراكه بعد أن إبداء السلوك الناتج عنه ,إذ أن هذا الوعي هو الذي يصنع الفارق بين الإقدام على فعل أو سلوك متهور قد يجعل صاحبه يقع في دوامة الندم الطويل لاحقا,و بين ضبط النفس الذي يأتي عندما يستطيع الفرد التفريق بين ذلك الانفعال و بين ذاته نفسها, وهو ما يمكن ان نسقط عليه قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه حين قال : " ليس الشديد بالصرعه لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب " البعد الثاني , هو " إدارة الانفعالات ", و الذي يُقصد به التحكم في سير الانفعالات بعد إدراكها, و وضع كل انفعال في مكانه المناسب,لتحقيق التوافق مع الذات و مع البيئة و المجتمع. كما يشمل أيضا طرق التعامل مع الانفعالات العاصفة و الشديدة,و امتصاص آثارها السلبية التي من شأنها زعزعة شخصية الفرد, و ذلك بعيش تلك الانفعالات و معالجتها بمرونة.فالفكرة الأساسية التي تعبر عن هذا البعد هي أن لكل موقف من مواقف الحياة انفعالا مناسبا له لا يمكن إنكاره أو قمعه كما لا يمكن أن يستبدل بانفعال آخر.فتقلب الحياة بين مواقف سعيدة و أخرى حزينة,ينبغي التعالم معه بوضع الانفعال المناسب في الموقف المناسب و عيش ذلك الانفعال بمعقولية. و الهدف من كل هذا هو إعطاء الحياة معناها الحقيقي. فالأفراد الذين يعيشون دوما في نمط انفعالي واحد و ثابت هم أكثر الأشخاص عرضة للمشاكل التوافقية,كما أن أولئك الذين يفتقدون إلى قدرة تسيير مشاعرهم و التعامل مع انفعالاتهم الطارئة بالمرونة اللازمة,هم أشخاص بحاجة ماسة إلى مساعدة. فالاعتقاد السائد بين عامة الناس فيما يخص التعامل مع الانفعالات السلبية كالحزن مثلا, هو أن أفضل وسيلة لتجنب هذه المشاعر هي إنكارها أو القفز عليها, إلا أن ذلك لا ينفع عادة, خاصة إذا كان الموقف يتطلب أن نعيش تلك المشاعر. إنما الحل يكمن في تقبلها و محاولة فهم سببها و الاقتناع بأنها طبيعية و هي تخص مرحلة أو حدثا معينا أدى إلى عيشها, أي أنها مؤقتة. أما البعد الثالث لهذا النموذج النظري,فهو " تنظيم الانفعالات " و تسمى كذلك الدافعية الذاتية و التحكم في العواطف و القدرة على تأجيل الإشباع, و هي أيضا القدرة على تنظيم الانفعالات و توجيهها إلى تحقيق الانجاز و التفوق, و استعمال الانفعالات في صنع أفضل القرارات. وعن البعد الرابع و الذي يُعتبر أساسيا و هاما جدا في مجال النجاح في العلاقات الاجتماعية, و هو ما يُسمى ب" التعاطف ", و يسمى كذلك التفهم أو التقمص الوجداني كما يسميه "إدوارد تيتشنرE.Titchener " الذي يقول:" التعاطف ينبع من الشعور بمعانة الآخر، باستحضار مشاعر الآخرين نفسها إلى داخل المتعاطف نفسه". و يوضح الدكتور بشير معمرية ما سبق بقوله: "يقوم التعاطف على أساس الوعي بالذات, لأنه بقدر ما يكون الفرد قادرا على تقبل مشاعره و إدراكها, يكون قادرا على قراءة مشاعر الآخرين. فالأشخاص العاجزون عن التعبير عن مشاعرهم, و المفتقدون لأي فكرة عما يشعرون به أنفسهم, يكونون في ضياع كامل. حيث أنه إذا طلب منهم معرفة مشاعر أي شخص آخر ممن يعيشون حولهم, فإنهم لا يجيبون بشيء ". لذلك يُطلق بعض العلماء على هذا العنصر اسم " دور العاطفة الذكي ", فهو يشمل إدراك الإنسان لعواطفه الذاتية و فهمها فهما عميقا, ثم العمل على الحفاظ عليها و العناية بها و تطويرها, إلى القدر الذي يصل به إلى " الارتقاء " بها إلى القدرة على قراءة عواطف و انفعالات الآخرين, دون أن يضطروا هم للتعبير عنها, و استعمال هذه القدرة في التواصل معهم و تلبية احتياجاتهم, بما يكفل تقديرهم و تأثرهم بشخص الفرد المتعاطف. أما البعد الخامس و الأخير في هذا النموذج فيسمى ب "إدارة العلاقات ",و هو ما يمكن اعتباره فنا من فنون العلاقات الاجتماعية,كما يسمى بالكفاءة الاجتماعية و التواصل الاجتماعي.و يشير إلى تأثير الفرد القوي و الايجابي في الآخرين عن طريق إدراك انفعالاتهم و مشاعرهم, و معرفة متى يقود و متى يتبع الآخرين و يتصرف معهم بطريقة ملائمة. عصام الكحلوت